للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بها، فإذا صرف تلك القوة فى دفع العوارض والدواعى القاطعة له عن السير اشتغل قلبه بدفعها عن السير فى زمن المدافعة. قالوا: ولأَن المقصود بالقصد الأَول إنما هو السير إلى الله، والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره فالاشتغال بالمقصود لنفسه أَولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة، قالوا: وأيضاً فالعوارض المانعة للقلب من سيره هى من باب المرض، واجتماع القلب على الله وطمأْنينته به وسكونه إليه بلا منازع ولا جاذب ولا معارض هو صحته وحياته ونعيمه، فكيف يكون القلب الذى [يعرض له مرض وهو مشغول بدوائه أفضل من القلب الصحيح] لا داءَ به ولا علة؟

قالوا: وأيضاً، فهذه الدواعى والميول والإرادات التى فى القلب تقتضى جذبه وتعويقه عن وجه سيره، وما فيه من داعى المحبة والإِيمان يقتضى جذبه عن طريقها فتتعارض الجواذب، فإِن لم توقفه عوقته ولا بد، فأَين السير بلا معوق من السير مع المعوق؟ قالوا: وأَيضاً فالذى يسير العبد بإِذن ربه إِنما هو همته، والهمة إذا علت وارتفعت لم تلحقها القواطع والآفات، كالطائر إذا علا وارتفع فى الجو فات الرماة ولم يلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام، وإِنما تدرك هذه الأشياءُ للطائر إذا لم يكن عالياً، فكذلك الهمة العالية قد فاتت الجوارح والكواسر، وإِنما تلحق الآفات والدواعى والإِرادات الهمة النازلة، فأَما إِذا علت فلا تلحقها الآفات.

قالوا: وأَيضاً فالحس والوجود شاهد بأَن قلب المحب متى خلا من غير المحبوب واجتمعت شئونه كلها على محبوبه ولم يبق فيه التفات إلى غيره كان أَكمل محبة من القلب الملتفت إلى الرقباءِ المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتوارى عنهم.

قالوا: فكم بين محب يجتاز على الرقباءِ فيطرقون من هيبته وخشيته ولا يرفع أحد منهم رأْسه إليه، وبين محب إِذا اجتاز بالرقباءِ هاشوا عليه كالزنابير أَو كالكلاب فاشتغل بدفعهم وحرابهم أو جد فى الهرب منهم، فكيف يسوى هذا بهذا، أم كيف يفضل عليه مع هذا التباين؟

قالوا: وأيضاً فالمحبة الخالصة الصادقة حقيقتها أنها نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإِذا احترق ما سوى مراده عدم وذهب أثره، فإذا بقى فى القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبة تامة ولا صادقة، بل هى محبة مشوبة بغيرها، فالمحب الصادق ليس فى قلبه سوى مراد محبوبه حتى ينازعه ويدافعه، والآخر فى قلبه

<<  <   >  >>