للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفرقة الأُخرى، فكأَنهما لم يتواردا على محل واحد، بل الفرقة الأُولى نظرت إلى نهاية سير المجاهد لنفسه وإِرادته وما ترتب له عليها من الأَحوال والمقامات فأَوجب لها شهود نهايته رجحانه فحكمت بترجيحه واستحلت بتفضيله، والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته فى شأْنه ذلك ونهاية النفس المطمئنة فأَوجب لها شهود الأَمرين الحكم بترجيح القلب الخالى من تلك الدواعى ومجاهدتها، وكل واحدة من الطائفتين فقد أَدلت بحجج لا تمانع، وأَتت ببينات لا ترد ولا تدافع.

وفصل الخطاب فى هذه المسألة يظهر بمسأَلة يرتضع معها من لبانها ويخرج من مشكاتها.

وهى أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه ثم تاب من ذنبه هل يعود إلى مثل ما كان؟ أو لا يعود، بل إن رجع رجع إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟ فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأُولى فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا محى أثر الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأَنه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله. قالوا: ولأَن التوبة هى الرجوع إلى الله بعد الإباق منه، فإن المعصية إباق العبد من ربه، فإذا تاب إلى الله فقد رجع إليه وإذا كان مسمى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأُولى مع الله لم تكن توبته تامة، والكلام إِنما هو فى التوبة النصوح.

قالوا: ولأن التوبة كما ترفع أثر الذنب فى الحال بالإقلاع عنه وفى المستقبل بالعزم على أن لا يعود فكذلك ترفع أثره فى الماضى جملة، ومن أَثره فى الماضى انحطاط منزلته عند الله ونقصانه عنده، فلابد من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله.

قالوا: ولأَنه لو بقى نازلاً من مرتبته منحطاً عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها لم تكن التوبة قد محت أثر الذنب ولا أفادت فى الماضى شيئاً، وإِن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إنما كان بالتوبة فلو ضعف تأْثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأُولى لضعف عن تبليغه تلك المنزلة التى وصل إليها، وإن لم تكن التوبة ضعيفة التأْثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأْثير عن إِعادته إلى المنزلة الأولى.

قالوا: وأيضاً ربط [فالله سبحانه ربط] الجزاء بالأعمال ربط الأسباب بمسبباتها، فالجزاء من جنس العمل، فكما رجع التائب إلى الله بقلبه رجوعاً تاماً رجع الله عليه بمنزلته وحاله، بل ما رجع العبد إلى الله حتى رجع [الله] بقلبه إليه أولاً فرجع الله إليه وتاب عليه ثانياً، فتوبة

<<  <   >  >>