للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العبد محفوفة بتوبتين من الله: توبة منه إذناً وتمكيناً فتاب بها العبد، وتاب الله عليه قبولاً ورضى. فتوبة العبد بين توبتين من الله، وهذا يدل على عنايته سبحانه وبره ولطفه بعبده التائب، فكيف يقال: إنه لا يعيده مع هذا اللطف والبر إلى حاله؟ قالوا: وأيضاً فإن التوبة من أجلِّ الطاعات وأوجبها على المؤمنين: وأعظمها عناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كل شئ، وهى من أحب الطاعات إلى الله [سبحانه] فإنه يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، وإذا كانت بهذه المثابة فالآتى بها آت بما هو أفضل القربات وأجل الطاعات، فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاط ونزول مرتبة فبالتوبة يحصل [له] مزيد تقدم وعلو درجة، فإن لم تكن درجته بعد التوبة أعلى فإنها لا تكون أنزل.

قالوا: وأيضاً فإنا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الحاصل من التوبة [أرجح من الأثر الحاصل من المعصية والكلام إنما هو فى التوبة] النصوح الكاملة، وجانب [العدل ولهذا كان من جانب العدل آحاد بآحاد وجانب] الفضل أرجح من جانب الفضل آحاد بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدل على رجحان جانب الفضل وغلبته، وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة فإن رحمة الرب تغلب غضبه.

قالوا: وأيضاً فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية، والعبد إذا مرض ثم عوفى وتكاملت عافيته رجعت صحته إلى ما كانت، بل ربما رجعت أقوى وأكمل مما كانت عليه، لأنه ربما كان معه فى حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتل ظهرت تلك الأسقام ثم زالت بالعافية جملة فتعود قوته خيراً مما كانت وأكمل، وفى مثل هذا قال الشاعر:

لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل

وهذا الوجه هو أحد ما احتج به من قال: أنه يعود خيراً بالتوبة مما كان قبل التوبة واحتجوا لقولهم أيضاً بأن التوبة تثمر للعبد محبة من الله خاصة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط فى حصولها، وإن حصل له محبة أُخرى بغيرها من الطاعات فالمحبة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإن الله يحب التوابين، ومن محبته لهم فرحه بتوبة أحدهم أعظم فرح وأكمله، فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة ورجع بها إلى طاعاته التى كان عليها أولاً انضم أثرها إلى أثر تلك الطاعات فقوى الأثران فحصل له المزيد من القرب والوسيلة وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت

<<  <   >  >>