للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذى كان له منه قبل الجناية، واحتجوا فى ذلك بأثر إسرائيلى مكذوب أن الله قال لداود عليه السلام: يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود.

وهذا كذب قطعاً، فإن الود يعود [بعد] التوبة النصوح أعظم مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبته، وأيضاً فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم [فرح] وأكمله وهو لا يحبه.

وتأمل سر اقتران هذين الاسمين فى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْودُود} [البروج: ١٣- ١٤] تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: لا يعود الود والمحبة منه لعبده أبداً، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يهيج القلب السليم ويأْخذ بمجامعه ويجعله عاكفاً على ربه- الذى لا إله إلا هو ولا رب له سواه- عكوف المحب الصادق على محبوبه الذى لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبداً.

واحتجوا أيضاً بأن العبد قد يكون بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة لأن الذنب يحدث له من الخوف والخشية والانكسار والتذلل لله والتضرع بين يديه والبكاء على خطيئته والندم عليها والأسف [والإشفاق] ما هو من أفضل أحوال العبد وأنفعها له فى دنياه وآخرته، ولم تكن هذه الأُمور لتحصل بدون أسبابها إذ حصول الملزوم بدون لازمة محال، والله يحب من عبده كسرته وتضرعه وذله بين يديه واستعطافه وسؤاله أن يعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن جرمه وخطيئته، فإذا قضى عليه بالذنب فترتبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن.

ولهذا قال بعض السلف:

لو لم تكن التوبة أحب الأشياءِ إليه لما أصاب بالذنب أكرم الخلق عليه.

وقيل: إن فى بعض الآثار يقول الله تعالى لداود عليه السلام: يا داود، كنت تدخل على دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل على دخول العبيد على الملوك.

قالوا: وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا: ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِنْدَنَا لزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [سورة ص: ٢٥] ، فزاده على المغفرة أمرين: الزلفى وهى درجة القرب منه وقد قال فيها سلف الأُمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف. والثانى: حسن المآب وهو حسن المنقلب وطيب المأْوى عند الله. قالوا: ومن تأمل

<<  <   >  >>