للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

زيادة القرب التى أعطيها داود بعد المغفرة علم صحة ما قلنا، وأن العبد بعد التوبة يعود خيراً مما كان.

قالوا: وأيضاً فإن للعبودية لوازم وأحكاماً وأسراراً وكمالات لا تحصل إلا بها ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم، فإن الله سبحانه يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هى حقيقة العبودية واشتقاقها يدل على ذلك، فإن العرب تقول: طريق معبَّد أى مذلل بوطءِ الأقدام.

والذل أنواع: أكملها ذل المحب لمحبوبه، الثانى: ذل المملوك لمالكه، الثالث: ذل الجانى بين يدى المنعم عليه المحسن إليه المالك له، الرابع: ذل العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدى القادر عليها التى هى فى يده وبأمره.

وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذل له فى أن يجلب له ما ينفعه. والثانى: ذل له فى أن يدفع [عنه] ما يضره على الدوام. ويدخل فى هذا ذل المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن.

فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفاها العبد حقها وشهدها كما ينبغى وعرف ما يراد به منه وقام بين يدى ربه مستصحباً لها شاهداً لذله من كل وجه ولعزة ربه وعظمته وجلاله كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره.

قالوا: وهذه أسرار لا تدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضره أَن يخلى المطى وحاديها، ويعطى القوس باريها.

فللكثافة أَقوام لها خلقوا ... وللمحبة أَكباد وأجفان

قالوا: وأيضاً فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للهُ أَشدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم [ضل] راحلته"، قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهى مركبه الذى يقطع به مسافة سفره، فلو عدمه لانقطع فى طريقه فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه. ثم إنه عدمها فى أرض دوّية لا أَنيس بها ولا معين ولا من يأْوى له ويرحمه ويحمله ثم إنها مهلكة لا ماءَ بها ولا طعام، فلما أَيس من الحياة بفقدها وجلس ينتظر الموت، إذا هو براحلته قد أشرفت عليه ودنت منه، فأَى فرحة تعدل فرحة هذا؟ ولو كان فى الوجود فرح أعظم من هذا لمثل به النبى صلى الله عليه وسلم، ومع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاءُ، فإِن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادى الخفا وهو وادى المحرّفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو

<<  <   >  >>