للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك فهم غضباً هو غليان دم القلب طلباً للانتقام، وكذلك فهم محبة ورضى [وكرهة] ورحمة مقرونة بخصائص المخلوقين [فإن] ذلك هو السابق إلى فهمه، وهو المشهود فى علمه الذى لم تصل معرفته إلى سواه ولم يحط علمه بغيره.

ولما كان [ذلك] هو السابق إلى فهمه لم يجد بداً من نفيه عن الخالق، والصفة لم تتجرد فى عقله عن هذا اللازم فلم يجد بداً من نفيها.

ثم لأصحاب هذه الطريق مسلكان: أحدهما: مسلك التناقض البين، وهو إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال، بل يثبتها مجردة عن خصائص المخلوق- كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها- فإِن كان إثبات تلك الصفات التى نفاها يستلزم [المحذور] الذى فرّ منه فكيف لم يتسلزم إثبات ما أثبته وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذوراً فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟ وهل فى التناقض أعجب من هذا؟

والمسلك الثانى: [مسلك النفى العام والتعطيل المحض هرباً من التناقض والتزاماً] لأعظم الباطل وأمحل المحال، فإذا الحق المحض فى الإثبات المحض الذى أثبته الله لنفسه فى كلامه وعلى لسان رسوله من غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تبديل ومنشأ غلط المحرّفين إنما هو ظنهم أن ما يلزم الصفة فى المحل المعين يلزمها لذاتها، فينفون ذلك اللازم عن الله، فيضطرون فى نفيه إلى نفى الصفة، ولا ريب أن الأمور ثلاثة: أمر يلزم الصفة لذاتها من حيث هى، فهذا لا يجب- بل لا يجوز- نفيه، كما يلزم العلم والسمع والبصر من تعلقها بمعلوم ومسموع ومبصر فلا يجوز نفى هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ لا تحقق لها بدونها، وكذلك الإرادة [مثلاً] تستلزم العلم لذاتها فلا يجوز نفى لازمها عنها، وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفى لوازمها، وكذلك كون المرئى مرئياً حقيقة له لوازم لا ينفك عنها ولا سبيل إلى نفى تلك اللوازم إلا بنفى الرؤية، وكذلك الفعل الاختيارى له لوازم لا بد فيه منها، فمن نفى لوازمه نفى الفعل الاختيارى ولا بد.

ومن هنا كان أهل الكلام أكثر الناس تناقضاً واضطراباً فإنهم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه، ويثبتون الشيء وينفون لازمه، فتتناقض أقوالهم وأدلتهم، ويقع السالك خلفهم فى الحيرة والشك.

ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشك والحيرة، حاشى من هو فى خفارة

<<  <   >  >>