للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد اتخذه نداً، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَالله إِن كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ٩٧- ٩٨] ، فهذه تسوية فى المحبة والتألية، لا فى الذات والأفعال والصفات والمقصود أنه سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك، وهذا هو محض الحق الذى به قامت السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذى خلق له فرضى عنه صانعه وبارئه وأحبه إذ كان يحب ويرضى، فإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه وأبق عن مالكه وسيده أبغضه ومقته، لأنه خرج عما خلق له وصار إلى ضد الحال التى هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه وعقوبته بدلاً من رحمته، فكأَنه استدعى من رحمته أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحب، فإنه سبحانه عفوّ يحب العفو، محسن يحب الإحسان، جواد يحب الجود سبقت رحمته غضبه. فإذا أبق منه العبد وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته وعقوبته على إحسانه، وهو سبحانه يحب من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه. وهو بمنزلة عبد السوء الذى يحمل أستاذه من المخلوقين المحسن إليه، الذى طبيعته الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيته، فأُستاذه يحب لطبعه الإحسان، وهو بإِساءَته ولؤمه يكلفه ضد طباعه ويحمله على خلاف سجيته، فإذا راجع هذا العبد ما يحب سيده [إليه وأقبل عليه وأعرض عن عدوه فقد صار إلى الحال التى تقتضى محبة سيده له] وإنعامه عليه وإحسانه إليه، فيفرح به ولا بد أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل [عليه] غاية الكمال والغنى والمجد.

فليتدبر اللبيب وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجد فى طيه من المعارف الإلهية ما لا تتسع له إلا القلوب المهيأَة لهذا الشأْن المخلوقة له، وهذا فرح محسن بر لطيف جواد غنى حميد، لا فرح محتاج إلى حصول [ما يفرح به] متكمل به مستقيل له من غيره، فهو عين الكمال، لازم للكمال، ملزوم له.

وأَلطف من هذا الوجه أن الله سبحانه خلق عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغ َ عَلَيْكُمْ نِعمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:٠٢] .

وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق

<<  <   >  >>