للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نوع تفرقة وانفصال يشهد فيه مع الله غيره، وهذا مناف للفناءِ فى التوحيد، وأن لا يشهد مع الله غيره أصلاً، وهذا قطب رحى السير الذى يشير إليه القوم، والعلم الذى يشمرون إليه، ولأجله يجعلون كل ما دونه من المقامات معلولاً، ولا بد من فصل القول فيه بعون الله وتأْييده، فإنه نهاية إِقدامهم وغاية مرماهم. فنقول وبالله التوفيق:

الفناءُ الذى يشار إِليه على أَلسنة السالكين ثلاثة أَقسام: فناءٌ عن وجود السوى، وفناءُ عن شهود السوى، وفناءٌ عن عبادة السوى وإرادته، وليس هنا قسم رابع.

فأما القسم الأول: فهو فناءُ القائلين بوحدة الوجود، فهو فناءٌ باطل فى نفسه، مستلزم جحد الصانع [سبحانه] ، وإِنكار ربوبيته وخلقه وشرعه، وهو غاية الإِلحاد والزندقة. وهذا هو الذى يشير إليه علماءُ الاتحادية، ويسمونه "التحقيق"، وغاية أحدهم فيه أن لا يشهد رباً وعبداً، وخالقاً ومخلوقاً، وآمراً ومأْموراً، وطاعة ومعصية، بل الأمر كله واحد، فيكون السالك عندهم فى بدايته يشهد طاعة ومعصية.

ثم يرتفع [عن] هذا الفرق بكشف عندهم إلى أن يشهد الأفعال كلها طاعة لله لا معصية فيها، وهو شهود الحكم والقدر، فيشهده طاعة لموافقتها الحكم والمشيئة. وهذا ناقص عندهم أيضاً، إذ هو متضمن للفرق، ثم يرتفع عندهم عن هذا الشهود إلى أن لا يشهد لا طاعة ولا معصية، إذ الطاعة والمعصية إنما تكون من غير لغير، وما ثم غير.

فإذا تحقق بشهود ذلك وفنى فيه فقد فنى عن وجود السوى، فهذا هو غاية التحقيق عندهم ومن لم يصل إليه فهو محجوب. ومن أشعارهم فى هذا قول قائلهم:

وما أنت غير الكون، بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق

وقول آخر:

ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من مدح ولا ذم

وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع بالحكم

وقول الآخر:

وما الموج إلا البحر لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد

والقسم الثانى من أقسام الفناء هو الذى يشير إليه المتأخرون من أرباب السلوك،

<<  <   >  >>