للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كانت هذه العلة بعينها موجودة فى هذا التوكل بطل أن يكون [علة] ، فلزم بطلان كونه معلولاً على التقديرين، وظهر أن العلة فى التوكل لا تخرج عن أحد شيئين: إما أن يكون متعلقة حظاً من حظوظك، وإما وقوفك معه وركونك إليه فقط، فإذا خلص التوكل من هذا وهذا فلا علة تلحقه ولا نقيضة تدركه.

الوجه العاشر: أن علة التوكل عنده هى ترك التوكل كما فسره فكيف يتوكل فى ترك التوكل؟ وهل هذا إلا جمع بين متضادين؟

الوجه الحادى عشر: قوله: "وهو أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يترك أمراً مهملاً، بل فرغ من الأشياءِ وقدرها، وإِن اختلف منها شيء فى العقول أو تشوش فى المحسوس أو اضطرب فى المعهود فهو المدبر له، وشأْنه سوق المقادير إلى المواقيت. المتوكل من أراح نفسه من كد النظر فى مطالعة السبب، سكوناً إلى ما سبق من القسمة مع استواءِ الحالين عنده" إلى آخر كلامه.

فيقال: هو سبحانه فرغ من الأشياء وقدرها بأسبابها المفضية إليها، فكما أن المسببات من قدره الذى فرغ منه فأسبابها [أيضاً من قدره الذى فرع منه. فتقريره المقادير بأسبابها] لا ينافى القيام بتلك الأسباب، بل يتوقف حصولها عليها.

وقد سئل النبى صلى الله عليه وسلم فقيل له: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: "هى من قدر الله"، وسئل صلى الله عليه وسلم: أعُلم أهل الجنة والنار؟ قال: "نعم"، قالوا: ففيم العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، فأمرهم بالأعمال، وأخبرهم أن الله يسر كل عبد لما خلق له فجعل عمله سبباً لنيل ما خلق له من الثواب والعقاب، فلا بد من إِثبات السبب والمسبب جميعاً.

الوجه الثانى عشر: قوله: "المتوكل من أراح نفسه من كد النظر فى مطالعة السبب سكوناً إلى ما سبق من القسمة، مع استواءِ الحالين عنده"، فهذا الكلام إن أُخذ على إطلاقه فهو باطل قطعاً، فإن السكون إلى ما سبق من القسمة وترك السبب فى أعمال البر عين العجز وتعطيل الأمر والشرع، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً التسوية بين الحالين. وأما السكون إلى ما سبق من القسمة فى أسباب المعيشة فهو حق، ولكن الكمال أن يكون ساكناً إلى ما سبق مع قيامه، وهذه حال الكملة من الصحابة ومن بعدهم. فالكمال مع قيامه، هو تنزيل الأسباب منازلها علماً وعملاً لا الإعراض عنها ومحوها، ولا الانتهاءُ إليها

<<  <   >  >>