للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ظلمه ظلماً بيناً، وادعى أن حقه فى قلبه. ومن هنا- والله أعلم- بطلت صدقته بالمن، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده فمنَّ عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له.

فتأمل هذه النصائح من الله لعباده، ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه فى شيء من ربوبيته وإلهيته لا إله غيره ولا رب سواه ونبه بقوله: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذَى} [البقرة: ٢٦٢] ، على أن المنَّ والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ولم يحصل له مقصود الإنفاق، ولو أتى بالواو وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، لأوهمت تقييد ذلك بالحال، وإذا كان المن والأذى المتراخى مبطلاً لأثر الإنفاق مانعاً من الثواب فالمقارن أولى وأحرى.

وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاءِ فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: ٢٦٢] ، وقرنه بالفاءِ فى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَّةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: ٢٧٤] ، فإن الفاءَ الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاءِ [وأن الخبر] مستحق بما تضمنه المبتدأُ من الصلة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضى بيان حصر المستحق للجزاءِ دون غيره جرد الخبر عن الفاءِ، فإن المعنى أن الذى ينفق ماله لله ولا يمن ولا يؤذى، هو الذى يستحق الأجر المذكور، لا الذى ينفق لغير الله [ولا من] ويمن ويؤذى بنفقته، فليس المقام مقام شرط وجزاءٍ بل مقام بيان للمستحق [من] غيره [وفى الآيه الأخرى للمستحق دون غيره] .

وفى الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سراً وعلانية، فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال، فأتى بالفاءِ فى الخبر ليدل على أن الإنفاق فى أى وقت وجد من ليل أو نهار، وعلى [أية] حالة وجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله، ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر ولا بنفقة السر وقت العلانية، فإن نفقته فى أى وقت وعلى أى حال وجدت سبب لأجره وثوابه، فتدبر هذه الأسرار فى القرآن فلعلك لا تظفر بها تمر بك فى التفاسير، والمنة والفضل لله وحده لا شريك له.

ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صدَقةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى

<<  <   >  >>