للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأعجب بما تضفيه على رجالها من هيبة وسكينة، وتاقت نفسه إلى الاستزادة من علومهم، ولكن رغبته هذه لم تكن تلقى آذانا صاغية من أمه، التي كانت ترجو أن يتولى- بوصفه أكبر أبنائها- دوره في إعالة الأسرة. ويظهر أن أكثر من مشادة قد حدثت بين الابن الطموح والأم المحدودة الأفق حول جدوى العلم والتعلم، وقد سجل هو لنا بعض ما كان يدور بينهما فقال «وكانت والدتي- رحمها الله تعالى- بلهاء، وكان نساء المحلة يضحكن عليها، يقلن لها: ايش ينفعك العلم وأنت امرأة أرملة وابنك الكبير لا يساعدك في شيء فكانت رحمها الله تقول: يا ولدي نحن فقراء وأنتم أيتام، هب أن عمّك يطعمك فمن يكسوك؟ وأنا لا أصغي لها حتى ألّحت عليّ في ذلك وقطعت كسوتها عني، كل هذا نشأ عن بلهها، وإغواء نساء الجيران إياها، وإلا فهي في حد ذاتها مباركة رحمة الله عليها» . «١» وهكذا تحولت أيام الطلب إلى أيام معاناة وألم وصبر، بحيث لم يجد ما يشتري به شمعا أو شيرجا لمطالعة دروسه، فكان يطالعها على ضوء القمر، أو على سرج السوق، وبقي- كما يقول- مدة مديدة ما أكل فيها لحما، وكان يلبس الثوب فلا يخلعه حتى يتمزق لعدم حصوله على الصابون، ويطول شعر رأسه فلا يجد ما يحلقه به، يقول ملخّصا تلك المدة العصيبة من حياته «والحاصل أني وجدت أيام الطلب من المشاق والجوع والسهر والعري والإفلاس ما لا طاقة به لولا إسعاف الله ولطفه، وكنت مع هذه المشاق أجد للطلب لذة عظيمة» . ووجد عبد الله في خاله ما يعوضه عن موقف أمه غير المتفهم، فقد شجعه هذا على المضي في سبيل العلم، ومواصلة الأخذ عن الشيوخ، فبعد أن أنهى دراسته في كتّاب الشيخ عبد الرحمن، وأتقن الخط، أرسله خاله إلى عالم الكرخ يومذاك «الشيخ العالم النحرير والجهبذ الشهير، تذكرة السلف، وعمدة الخلف، زين الملة والدين، الشيخ حسين نوح الحديثي الحنفي «٢» » وكان هذا العالم يتولى التدريس في المدرسة العمرية التي أنشأها له

<<  <   >  >>