للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

إلغاء بعض المصالح، فدل على أنهم لم يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع لنوعها أو جنسها القريب، فإن الشارع لم يعتبر المصالح مطلقاً، بل بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها، إذ غاية العقل أن يحكم بأن جلب المصلحة مطلوب، والعقل لا بد له في معرفة المصالح بالاسترشاد بأدلة الشرع، فهو وإن تصور المصلحة وحكم بجلبها، لكن لا يستطيع أن يستقل بإدراك الطريق الخاص، فلا بد من وجود دليل شرعي يعين له الطريق الخاص بالاطلاع على معرفة المصالح، ويرشده إلى معرفة المقصد فيقبل هذا الدليل، فيثبت أن اعتبار المصالح المرسلة من غير شهادة الشرع لنوعها أو جنسها في بناء الأحكام ـ غير جائز.

الجواب:

أنه قد ثبت من تتبع كثير من الشواهد التي اعتمد فيها الصحابة على المصالح، أنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصلحة، ولا يبحثون عن شيء آخر وراء ذلك، وقد مرت الشواهد التي تؤيد ذلك، كجمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر، ونسخه في مصحف واحد في عهد عثمان، واتخاذ عمر رضي الله عنه الدواوين وداراً خاصة للسجن، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وقد وقعت منهم، ونظروا إلى المصلحة، وبنوا الحكم عليها، فالقول كانوا لا يعتمدون من المصالح في بناء الحكم عليها، إلا ما اعتبر نوعه أو جنسه القريب تحكم، وقول من غير دليل، وتخصيص من غير مخصص.

أما القول بأن الصحابة لو كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح لم ينعقد الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح ـ فمحل إيراده: أن لو كانوا يقنعون بالمصالح وإن ألغاها الشارع، ولكن الواقع غير ذلك، فإنهم كانوا لا يعتمدون إلا على المصالح المعتبرة شرعاً، أو المرسلة الملائمة لمقاصد الشريعة، فالمصالح التي انعقد الإجماع على إلغائها إنما هي المصالح التي ألغاها الشارع، وليس الكلام فيها.

والعقل لا يستقل بإدراك الطريق الخاص في جلب المصلحة إلا بدليل يعين له ذلك الطريق، فهو أمر مسلم، فلا بد من وجود دليل يرشد العقل إلى الطريق الخاص في معرفة المصلحة، سواء أكان الدليل نصاً أم غيره، دل بظاهره أم بعمومه على وجود المصلحة، أم كان الدليل هو الاسترشاد بمقاصد الشريعة، فهذا مسلم أيضاً، فإن

<<  <  ج: ص:  >  >>