للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أَيْ لِيَتَأَتَّى لَهُمْ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمُ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ بِأَنْ يَتَكَلَّفَ الْبَاقُونَ فِي الْمَدِينَةِ الْفَقَاهَةَ فِي الدِّينِ بِمَا يَتَجَدَّدُ نُزُولُهُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مِنْ بَيَانِهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَيُعَرِّفُ الْحُكْمَ مَعَ حِكْمَتِهِ، وَيُفَصِّلُ الْعِلْمَ الْمُجْمَلَ بِالْعَمَلِ بِهِ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) الَّذِينَ نَفَرُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ (إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أَيْ يَجْعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنَ الْفَقَاهَةِ بِأَنْفُسِهِمْ إِرْشَادَ هَؤُلَاءِ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا عَلِمُوا، وَإِنْذَارَهُمْ عَاقِبَةَ الْجَهْلِ، وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَخَافُوا اللهَ وَيَحْذَرُوا عَاقِبَةَ عِصْيَانِهِ ; وَيَكُونُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عُلَمَاءَ بِدِينِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى نَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَتَعْمِيمِ هِدَايَتِهِ، فَهَذَا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْغَرَضَ مِنْهُ لَا الرِّيَاسَةُ وَالْعُلُوُّ بِالْمَنَاصِبِ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى النَّاسِ وَطَلَبُ الْمَنَافِعِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْهُمْ.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِتَعْلِيمِهِ فِي مَوَاطِنِ الْإِقَامَةِ وَتَفْقِيهِ النَّاسِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ بِهِ حَالُهُمْ، وَيَكُونُونَ بِهِ هُدَاةً لِغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ الْمُتَخَصِّصِينَ لِهَذَا التَّفَقُّهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لَا يَقِلُّونَ فِي الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللهِ عَنِ الْمُجَاهِدِينَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ. بَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الدِّفَاعُ فَرْضًا عَيْنِيًّا، وَالدَّلَائِلُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُتَكَلَّفٌ بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ طَائِفَةٍ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا قِيلَ وَهُوَ بَاطِلٌ.

كُنْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي طَرَابُلُسَ وَكَانَ حَاكِمُهَا الْإِدَارِيُّ (الْمُتَصَرِّفُ) فِيهَا مُصْطَفَى بَاشَا بَابَانِ مِنْ سَرَوَاتِ الْكُرْدِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ لِي مَرَّةً فِي دَارِنَا بِالْقَلَمُونِ: لِمَاذَا تَسْتَثْنِي الدَّوْلَةُ الْعُلَمَاءَ وَطُلَّابَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ خِدْمَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ شَرْعًا وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِهَذَا الْوَاجِبِ؟ - يُعَرِّضُ بِي - أَلَيْسَ هَذَا خَطَأً لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؟ فَقُلْتُ لَهُ عَلَى الْبَدَاهَةِ بَلْ لِهَذَا أَصْلٌ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَلَوْتُ الْآيَةَ، فَاسْتَكْثَرَ الْجَوَابَ عَلَى مُبْتَدِئٍ مِثْلِي لَمْ يَقْرَأِ التَّفْسِيرَ وَأَثْنَى وَدَعَا. وَقَدْ تَعَارَضَتِ الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَالْحَقُّ فِيهَا مَا قُلْنَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ نَسْخُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: (انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) (٩: ٤١) - (إِلَّا تَنْفِرُوا

يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (٩: ٣٩) قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يَقُولُ لِتَنْفِرْ طَائِفَةٌ وَلِتَمْكُثْ طَائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْمَاكِثُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُمُ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيُنْذِرُونَ إِخْوَانَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَا نَزَلْ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ قَضَاءِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَحُدُودِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>