وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ: يَعْنِي مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ - فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَعْنِي عُصْبَةً يَعْنِي السَّرَايَا فَلَا يَسِيرُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرَايَا وَقَدْ نَزَلَ قُرْآنٌ تَعَلَّمُهُ الْقَاعِدُونَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ بَعْدَكُمْ قُرْآنًا وَقَدْ تَعَلَّمْنَاهُ، فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُمْ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخَرَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يَقُولُ يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَيُعَلِّمُونَهُ السَّرَايَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ آيَاتِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَهُوَ قَدْ يُوَافِقُ إِطْلَاقَ السَّلَفِ فِي النَّسْخِ وَمِنْهُ عِنْدَهُمْ تَخْصِيصُ الْعَامِّ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا النَّسْخُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ; لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّفِيرِ الْخَاصِّ غَيْرُ مَوْضِعِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَحْكَامِ. وَبِهَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) لِلطَّائِفَةِ الَّتِي تَنْفِرُ لِلْغَزْوِ لَا لِلَّتِي تَبْقَى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيَتَفَقَّهَ الَّذِينَ خَرَجُوا بِمَا يُرِيهِمُ اللهُ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالنُّصْرَةِ، وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَزَعَمَ الطَّبَرِيُّ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ تَتَفَقَّهُ بِمَا تُعَايِنُ مِنْ نَصْرِ اللهِ أَهْلَ دِينِهِ وَأَصْحَابَ رَسُولِهِ عَلَى أَهْلِ عَدَاوَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَيُفَقَّهُ بِذَلِكَ مِنْ مُعَايَنَةِ حَقِيقَةِ عِلْمِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ مَنْ لَمْ يَكُنْ فَقِهَهُ.
(وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) فَيُحَذِّرُوهُمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ شَاهَدُوا مِمَّنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ (إِذَا) هُمْ (رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) مِنْ غَزْوِهِمْ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) يَقُولُ لَعَلَّ قَوْمَهُمْ إِذَا هُمْ حَذَّرُوهُمْ مَا عَايَنُوا مِنْ ذَلِكَ يَحْذَرُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ حَذَرًا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ
بِالَّذِينِ أَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُمُ اهـ.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُتَكَلَّفٌ يَنْبُو عَنْهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ ; فَإِنَّ اعْتِبَارَ طَائِفَةِ السَّرِيَّةِ بِمَا قَدْ يَحْصُلُ لَهَا مِنَ النَّصْرِ - وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَلَا مُطَّرَدٍ - لَا يُسَمَّى تَفَقُّهًا فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَعْنَى الْفِقْهِ، فَإِنَّ التَّفَقُّهَ هُوَ: التَّعَلُّمُ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّدَرُّجِ وَالْمُتَبَادِرِ مِنَ الدِّينِ عِلْمُهُ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ إِلَّا فِي الَّذِينَ يَبْقَوْنَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَزْدَادُونَ كُلَّ يَوْمٍ عِلْمًا وَفِقْهًا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ) (٩: ٩٧) وَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِيمَا يَنْزِلُ مِنَ السُّورِ فَيَزْدَادُ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا. وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَشْمَلُ السَّفَرَ لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا فِي الرِّحْلَةِ مِنْ أَسْبَابِ زِيَادَةِ الِاسْتِفَادَةِ بِالِانْقِطَاعِ لِلْعِلْمِ وَلِقَاءِ أَسَاطِينِهِ، وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ فَضِيلَةَ السِّيَاحَةِ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute