للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَلْ هُوَ مَحَلُّ الْإِعْجَابِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ النَّاسِ أَمْ لَا؟ ـ وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ نَعَمْ عَلَى لَا ـ وَشَرُّ هَذَا دُونَ شَرِّ الْبَخِيلِ، فَإِنَّ هَذَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى قَبُولِ اخْتِيَالِهِ وَفَخْرِهِ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَبْذُلُهُ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ رَأَى لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ بَدَلُ الْتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ الَّذِي يَطْلُبُهُ بِرِئَائِهِ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ تَعْظِيمُهُ وَمَدْحُهُ لِأَجْلِ مَالِهِ ـ وَمَالُهُ فِي الصُّنْدُوقِ مَكْتُومٌ عَنْهُمْ ـ فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْمُرَائِي بِلَا شَكٍّ ; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْبُخَلَاءِ اهْتِمَامًا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَقُ فِي تِلْكَ الرَّذِيلَةِ وَآثَارِهَا، وَالْمُرَائِي فِي الْحَقِيقَةِ بَخِيلٌ لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْفَضْلِ عَلَى النَّاسِ ; وَلِذَلِكَ يَخُصُّ بِبَذْلِهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ لَا حَقَّ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَبْخَلُ عَلَى أَرْبَابِ الْحُقُوقِ الْمُؤَكَّدَةِ حَتَّى عَلَى زَوْجِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، وَعَلَى الْأَقْرَبِينَ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ، وَلَا يَتَحَرَّى فِي إِنْفَاقِهِ مَوَاضِعَ النَّفْعِ الْعَامِّ وَلَا الْخَاصِّ، وَإِنَّمَا يَتَحَرَّى مَوَاطِنَ التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَإِنْ كَانَ الْإِنْفَاقُ هُنَالِكَ ضَارًّا كَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى الْفِسْقِ أَوِ الْفِتَنِ، فَهُوَ تَاجِرٌ يَشْتَرِي تَعْظِيمَ النَّاسِ لَهُ وَتَسْخِيرَهُمْ لِقَضَاءِ حَاجِهِ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ.

أَقُولُ: إِنَّ مَا يُبَيِّنُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا هُوَ الرِّيَاءُ الْحَقِيقِيُّ الْمَمْقُوتُ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خِيَارِ عِبَادِهِ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ الدِّينِيَّةِ: إِنَّ لِلرِّيَاءِ أَنْوَاعًا وَمَرَاتِبَ، وَإِنَّ مِنْهَا أَنْ يَبْذُلَ الْمَالَ لِمُسْتَحَقِّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَقِيَامًا بِالْحَقِّ وَإِيثَارًا لِلْخَيْرِ، وَقَدْ يُخْفِيهِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ إِذَا عُرِفَ، وَيَعُدُّونَ الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مِنْهُ

مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ كَهَذَا الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَيُقَالُ فِي مِثْلِهِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ إِحْسَانٌ فَهُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللهِ نَافِعٌ لِلنَّاسِ، فَلَا يَضِيرُهُ حُبُّهُ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا فَعَلَ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِذَلِكَ لِذَاتِهِ أَكْمَلَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا (٣: ١٨٨) ، الْآيَةَ فَرَاجِعْهُ فِي ص [٢٣٥ - ٢٤٢ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ] ، أَوْ فِي الْمَنَارِ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ الْمُرَائِينَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَائِيَ يَثِقُ بِمَا عِنْدَ اللهِ، وَيُرَجِّحُ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَيُؤْثِرُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَدْحِ وَتَوَقُّعِ النَّفْعِ عَلَى مَا أَعَدَّهُ اللهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ فَاللهُ فِي نَظَرِهِ الْمُظْلِمِ أَهْوَنُ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ يُعَدُّ مِثْلُ هَذَا مُؤْمِنًا بِاللهِ إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، مُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا يَجِبُ؟ أَمْ يَكُونُ إِيمَانُهُ تَخَيُّلًا كَتَخَيُّلِ الشُّعَرَاءِ، وَقَوْلًا كَقَوْلِ الصِّبْيَانِ: وَاللهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَنْطِقُ بِاسْمِ اللهِ وَيُؤَكِّدُ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ الْكَلَامَ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اللهَ، وَإِنَّمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>