للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (٥٦، ٨٥) فَقَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمْ فِي فَسَادٍ فَأَصْلَحَهُمُ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ دَعَا إِلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ اهـ. وَالْإِفْسَادُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ أَظْهَرُ قُبْحًا مِنَ الْإِفْسَادِ عَلَى الْإِفْسَادِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْإِصْلَاحِ أَكْبَرُ حُجَّةً عَلَى الْمُفْسِدِ إِذَا هُوَ لَمْ يَحْفَظْهُ وَيَجْرِي عَلَى سَنَنِهِ. فَكَيْفَ إِذَا هُوَ أَفْسَدَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ وَضْعِهِ؟ وَلِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَإِلَّا فَالْإِفْسَادُ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ، فَحُجَّةُ اللهِ عَلَى الْخُلُوفِ وَالْخَلَائِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، لِمَا كَانَ مِنْ إِصْلَاحِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، أَظْهَرُ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ سَلَفِهِمُ الْغَابِرِينَ.

(وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أَعَادَ الْأَمْرَ بِالدُّعَاءِ بِقَيْدٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا النَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَنْ لَا يُعَرِّفُ نَفْسَهُ بِالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى

رَحْمَةِ رَبِّهِ الْغَنِيِّ الْقَدِيرِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلَا يَدْعُوهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَلَا خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ وَطَمَعًا فِي غُفْرَانِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِفْسَادِ مِنْهُ إِلَى الْإِصْلَاحِ، إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ. وَالْمَعْنَى: وَادْعُوهُ خَائِفِينَ أَوْ ذَوِي خَوْفٍ مِنْ عِقَابِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ لِشَرْعِهِ الْمُصْلِحِ لِأَنْفُسِكُمْ وَلِذَاتِ بَيْنِكُمْ، وَتَنَكُّبِكُمْ لِسُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي صِحَّةِ أَجْسَامِكُمْ وَشُئُونِ مَعَايِشِكُمْ - وَهَذَا الْعِقَابُ يَكُونُ بَعْضُهُ فِي الدُّنْيَا وَبَاقِيهِ فِي الْآخِرَةِ - وَطَامِعِينَ فِي رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي حَالِ النَّفْسِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَنْ تَكُونَ غَارِقَةً فِي الشُّعُوبِ بِالْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى الرَّبِّ الْقَدِيمِ الرَّحِيمِ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. يَصْرِفُ الْأَسْبَابَ، وَيُعْطِي بِحِسَابٍ وَغَيْرِ حِسَابٍ، فَإِنَّ دُعَاءَ الرَّبِّ الْكَرِيمِ بِهَذَا الشُّعُورِ، يُقَوِّي أَمَلَ النَّفْسِ، وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَأْسِ، عِنْدَ تَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، وَالْجَهْلِ بِوَسَائِلِ النَّجَاحِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ فَائِدَةٌ إِلَّا هَذَا لَكَفَى، فَكَيْفَ وَهُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبَابُهَا، وَإِجَابَتُهُ مَرْجُوَّةٌ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ وَآدَابِهِ، وَأَوَّلُهَا عَدَمُ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِإِعْطَاءِ الدَّاعِي مَا طَلَبَهُ، كَانَتْ بِمَا يَعْلَمُ اللهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ. وَلَا أَرَى بَأْسًا بِأَنْ أَقُولَ غَيْرَ مُبَالٍ بِإِنْكَارِ الْمَحْرُومِينَ: إِنَّنِي قَلَّمَا دَعَوْتُ اللهَ دُعَاءً خَفِيًّا شَرْعِيًّا رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَّا اسْتَجَابَ لِي، أَوْ ظَهَرَ لِي وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ أَنَّ عَدَمَ الْإِجَابَةِ كَانَ خَيْرًا مِنْهَا.

(إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى الْفِعْلِيَّةَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الْمُتْقِنِينَ لَهَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَمَنْ أَحْسَنَ فِي الْعِبَادَةِ نَالَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا نَالَ حُسْنَ النَّجَاحِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّعَاءِ اسْتُجِيبَ لَهُ، أَوْ أُعْطِيَ خَيْرًا مِمَّا طَلَبَهُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ قَبْلَهَا، مُبَيِّنَةٌ لِفَائِدَةِ الدُّعَاءِ الْعَامَّةِ كَمَا قَرَّرْنَا. فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٤٠: ٦٠) .

<<  <  ج: ص:  >  >>