للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ. فَفَائِدَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذًا تَذْكِيرُ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ بِقُبْحِ طَاعَةِ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءِ فِي أَفْظَعِ الْجَرَائِمِ وَالْجِنَايَاتِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ.

ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا التَّزْيِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ لِيُرْدُوهُمْ، أَيْ يُهْلِكُوهُمْ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ إِفْسَادُ الْفِطْرَةِ، الَّذِي يُذْهِبُ بِمَا أُوْدِعَ فِي قُلُوبِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ عَوَاطِفِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، بَلْ يَقْلِبُهَا إِلَى مُنْتَهَى الْوَحْشِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ، حَتَّى يَنْحَرَ الْوَالِدُ رَيْحَانَةَ قَلْبِهِ بِمُدْيَتِهِ. وَيَدْفِنَ بِنْتَهُ الضَّعِيفَةَ وَهِيَ حَيَّةٌ بِيَدِهِ. فَهَذَا إِرْدَاءٌ نَفْسِيٌّ مَعْنَوِيٌّ فَوْقَ الْإِرْدَاءِ الْحِسِّيِّ وَهُوَ الْقَتْلُ وَتَقْلِيلُ النَّسْلِ. وَأَمَّا لَبْسُ دِينِهِمْ عَلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِيهِ مَا كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدِ اشْتَبَهَ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الشِّرْكِيَّةِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يُعْرَفُ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ يُتَّبَعُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ تُبْتَدَعُ، فَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ الَّذِي يَشْتَبِهُ فِيهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ دِينُهُمُ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لِيُوقِعُوهُمْ فِي دِينٍ مُلْتَبَسٍ مُشْتَبَهٍ لَا تَتَجَلَّى فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَلَا تَخْلُصُ فِيهِ هِدَايَةٌ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، وَتَزْيِينَهُمْ وَسْوَسَتُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ هُمْ سَدَنَةُ الْآلِهَةِ فَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ ; لِأَنَّ السَّدَنَةَ لَا تَقْصِدُ الْإِرْدَاءَ لَهُمْ وَلَبْسَ الدِّينِ عَلَيْهِمْ كَذَا قِيلَ: وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِرْدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي لَبْسِ الدِّينِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّدَنَةِ وَالْكَهَنَةِ يَقْصِدُونَ الْعَبَثَ بِدِينِ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ وَيَدِينُ لَهُمُ الْتِذَاذًا بِطَاعَتِهِمْ وَاسْتِعْلَاءً بِالرِّيَاسَةِ فِيهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا يَفْعَلَ الشُّرَكَاءُ ذَلِكَ التَّزْيِينَ، أَوِ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلَ لَمَا فَعَلُوهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَهُمْ وَسُنَنَهُ الْحَكِيمَةَ فِيهِمْ. وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِهِ وَلَا لِسُنَنِهِ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ مَطْبُوعِينَ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى طَبْعًا لَا يَسْتَطِيعُونَ غَيْرَهُ كَالْمَلَائِكَةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِغْوَاءٌ، بَلْ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ وَسْوَسَةٌ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِهَا، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، وَلِاخْتِيَارِ مَا يَتَرَجَّحُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يَغْلِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مَا رَسَخَ فِي نَفْسِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَتَأْثِيرِ الْمُعَاشَرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ

وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا اسْتِعْدَادًا وَاسْتِفَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ رَأْيٍ وَاحِدٍ، فَدَعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِانْتِحَالِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَيْهَا وَعَلَيْكَ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ

<<  <  ج: ص:  >  >>