للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَسَبَوُا الْأُمَّةَ وَسَلَبُوهَا الْمُلْكَ وَالِاسْتِقْلَالَ، ثُمَّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَتَابَ عَلَيْهِمْ، وَأَعَادَ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا مَرَّةً أُخْرَى، وَعَادُوا إِلَى ظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَسَلَّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْفُرْسَ، ثُمَّ الرُّومَ (الرُّومَانِيِّينَ) فَأَزَالُوا مُلْكَهُمْ وَاسْتِقْلَالَهُمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ " عَمُوا وَصَمُّوا " أَوْ هُوَ الْفَاعِلُ وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَزْدِ الَّتِي يُعَبِّرُ النُّحَاةُ بِكَلِمَةِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ " أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ "، وَالْمُرَادُ أَنَّ عَمَى الْبَصِيرَةِ وَالْخَتْمَ عَلَى السَّمْعِ لَمْ يَكُنْ عَامًّا مُسْتَغْرِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ الْكَثِيرُ الْغَالِبُ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) بَيَانُ حِكْمَةِ هَذَا التَّدْقِيقِ فِي الْقُرْآنِ بِنِسْبَةِ الْفَسَادِ لِلْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ فِي الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ اللهُ الْأُمَمَ بِالذُّنُوبِ إِذَا كَثُرَتْ وَشَاعَتْ فِيهَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْغَالِبِ، وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الصَّلَاحِ أَوِ الْفَسَادِ الْعَامِّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٨: ٢٥) وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَعِلَّتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَحِكْمَتُهُ بَاهِرَةٌ.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) الْآنَ مِنَ الْكَيْدِ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ ; فَاتِّبَاعُ الْهَوَى قَدْ

أَعْمَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، فَتَرَكَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّونَ فِي بِشَارَاتِهِمْ بِهِ، وَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَسَيُعَاقِبُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا عَاقَبَهُمْ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَجَعَلُوا (يَعْمَلُونَ) بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِهِ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ أَعْمَالِهِمْ فِي مَاضِيهِمْ، وَتَمْثِيلُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي حَاضِرِهِمْ، كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ (وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) وَمَا قُلْنَاهُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ هَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ الْمُهِمِّ الَّذِي يُرَادُ التَّذْكِيرُ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِجَعْلِ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ مِرْآةً لِلزَّمَنِ الْغَابِرِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْحُسْنُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُطَلَقَةِ الْمُبْهَمَةِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ وَيَعْقُوبَ قَرَءُوا " أَنْ لَا تَكُونَ "، وَالْأَصْلُ حِينَئِذٍ: وَحَسِبُوا أَنَّهُ - أَيِ الْحَالَ وَالشَّأْنَ - لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ ; فَخُفِّفَتْ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ، وَحُذِفَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُتَّصِلِ، وَأُشْرِبَ الْحُسْبَانُ مَعْنَى الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ.

ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْيَهُودِ إِلَى بَيَانِ حَالِ النَّصَارَى فِي دِينِهِمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أَكَّدَ تَعَالَى بِالْقَسَمِ كُفْرَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ النَّصَارَى ; إِذْ غَلَوْا فِي إِطْرَاءِ نَبِيِّهِمُ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غُلُوًّا ضَاهَوْا بِهِ غُلُوَّ الْيَهُودِ فِي الْكُفْرِ بِهِ وَقَوْلِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ الصِّدِّيقَةِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، ثُمَّ صَارَ هُوَ الْعَقِيدَةَ الشَّائِعَةَ فِيهِمْ،

<<  <  ج: ص:  >  >>