للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوَجْهِ الثَّانِي. أَمَّا اتِّصَالُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا عَلَى هَذَا فَظَاهِرٌ جَلِيٌّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا وَبَّخَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ - وَهُوَ الْإِسْلَامُ، آثَرَ إِقَامَةَ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةَ شُبُهَاتِهِمْ - نَاسَبَ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُؤْمِنِينَ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَهَذَا شَأْنُ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ فِي ظُهُورِ حَقِيقَتِهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعُوا وَلَا أَنْ يُسْمَعَ لَهُمْ قَوْلٌ، فَإِنَّهُمْ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ وَرُوَّادُ الْكُفْرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بِطَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَهِيَ رُوحُ الْهِدَايَةِ وَحِفَاظُ الْإِيمَانِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَلَكُمْ فِي سُنَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ خَيْرُ أُسْوَةٍ تُغَذِّي إِيمَانَكُمْ وَتُنِيرُ بُرْهَانَكُمْ، فَهَلْ يَلِيقُ بِمَنْ أُوتُوا هَذِهِ الْآيَاتِ، وَوُجِدَ فِيهِمُ الرَّسُولُ الْحَكِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ أَنْ يَبْتَغُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا، حَتَّى اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ، وَعُرِفُوا بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ يَكُونُ الِاعْتِصَامُ إِذَنْ هُوَ حَبْلُهُ الْمَمْدُودُ. وَرَسُولُهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ وَهُوَ وِرْدُهُ الْمَوْرُودُ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يُضَلُّ فِيهِ السَّالِكُ، وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَهَالِكِ، فَلَا تَرُوجُ عِنْدَهُ الشُّبَهَاتُ، وَلَا تَرُوقُ فِي عَيْنِهِ التُّرَّهَاتُ، وَقَدْ جَاءَ جَوَابُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمُحَقِّقِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَنْ يَلْتَجِئُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - وَيَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ هِدَايَتُهُ وَثَبَتَتِ اسْتِقَامَتُهُ.

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أَيْ وَاجِبٌ تَقْوَاهُ وَمَا يَحِقُّ مِنْهَا، كَمَا فِي الْكَشَّافِ، قَالَ: مِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [٦٤: ١٦] أَيْ بَالِغُوا فِي التَّقْوَى حَتَّى لَا تَتْرُكُوا مِنَ الْمُسْتَطَاعِ مِنْهَا شَيْئًا. اهـ.

هَذَا مَا فَسَّرَ بِهِ الْعِبَارَتَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ بِحَسْبَ ذَوْقِهِ السَّلِيمِ وَفَهْمِهِ الدَّقِيقِ، ثُمَّ نَقَلَ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِيهِمَا، وَمَا قَالَهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَمَعْنَى الْعِبَارَتَيْنِ عَلَيْهِ وَاحِدٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَهِمَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ،

حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الثَّانِيَةَ نَسَخَتِ الْأُولَى، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا ومَرْفُوعًا. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُ: أَنَّ مَعْنَى اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ " أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكُرَ فَلَا يُكْفَرُ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ فَقَامُوا " فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ " حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَتِ الْآيَةَ الْأُولَى، كَذَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ النَّسْخَ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَدَمُ نَسْخِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَهَا بِأَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. أَيْ فَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي تُقَرِّرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ مِمَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَسْخِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>