للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَاهِلُونَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ؟ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ، مَا يَكْفِي لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي غَفْلَةٍ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ أُولُو الْأَبْصَارِ، نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُكْثِرَ فِي أُمَّتِنَا مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ إِلَّا بِذَلِكَ وَإِلَّا فَهِيَ هَالِكَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا جَزَاءٌ مُطَّرِدٌ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَجَزَاءُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْهُ وَأَنْكَى، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:

(يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِمَا يَخْطُرُ فِي بَالِ مَنْ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: يَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْأَوْزَارِ إِذَا قَدِمُوا عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ وَيُسْأَلُونَ عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْمَعْشَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١٣٠ فَمَا الْعَهْدُ بِهَا بِبَعِيدٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ التَّوْبِيخِيِّ، وَقَوْلُهُ: (رُسُلٌ مِنْكُمْ) ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ أَرْسَلَ اللهُ مِنْهُمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ

الرُّسُلَ كُلَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ، كَحَصْرِ الرِّسَالَةِ فِي الرِّجَالِ وَجَعْلِهَا فِي ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ; وَلِذَلِكَ صَرَفُوا النَّظْمَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) مِنْ جُمْلَتِكُمْ - لَا مِنْ كُلٍّ مِنْكُمْ، وَهُوَ يُصَدِّقُ بِرُسُلِ الْإِنْسِ الَّذِينَ تَثْبُتُ رِسَالَتُهُمْ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَذَكَرُوا لَهُ شَاهِدًا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) (٥٥: ٢٢) بَعْدَ قَوْلِهِ: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) (٥٥: ١٩) إِلَخْ. أَيِ الْمِلْحُ وَالْحُلْوُ وَهُوَ الْبُحَيْرَاتُ وَكِبَارُ الْأَنْهَارِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْبِحَارَ الْحُلْوَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لُؤْلُؤٌ وَلَا مَرْجَانُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِهَا كَبَعْضِ أَنْهَارِ الْهِنْدِ، ثَبَتَ ذَلِكَ قَطْعًا وَاسْتَدْرَكَهُ (سَايِلْ) مُتَرْجِمُ الْقُرْآنِ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ. وَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَقَائِقِ الْأَكْوَانِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى فِي أَيَّامِ حَضَارَتِهِمْ وَاسْتِعْمَارِهِمْ لِلْأَقْطَارِ. ذَكَرَ هَذَا الشَّاهِدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: جَمَعَهُمْ كَمَا جَمَعَ قَوْلَهُ: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (٣٥: ١٢) وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْهَارِ حِلْيَةٌ انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ أَبْعَدُ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ آيَةِ الرَّحْمَنِ بَلْ هُوَ يُبْطِلُهُ، وَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ كَقَوْلِهِمْ: أَكَلْتُ تَمْرًا وَلَبَنًا. (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوا قَوْمَهُمْ وَهُمْ رُسُلٌ إِلَى قَوْمِهِمْ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْجِنِّ هُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا مِنْهُمُ الدَّعْوَةَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ وَبِلَّغُوهَا لِقَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ كَالَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصَتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٤٦: ٢٩) الْآيَاتِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ رَسُولِ

<<  <  ج: ص:  >  >>