فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.
وَاسْتَشْكَلَ الْقَرَافِيُّ هَذَا الضَّابِطَ فِيمَا يَسْكُتُونَ عَنْ بَيَانِهِ وَتَحْدِيدِهِ مِنَ الْعُرْفِ، وَقَالَ: إِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ مِنْ أَهِلْهُ إِلَّا الْعَوَامُّ الَّذِينَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَلَا رَأْيِهِمْ فِي الدِّينِ (وَعِبَارَتُهُ: لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فِي الدِّينِ) وَرَأَى إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يَتَعَيَّنُ تَقْرِيبُهُ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَفْحَصَ عَنْ أَدْنَى مَشَاقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَيُحَقِّقُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ، ثُمَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاقِّ، مِثْلَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا، جَعَلَهُ مُسْقِطًا، وَإِنْ كَانَ أَدْنَى مِنْهَا لَمْ يَجْعَلْهُ مُسْقِطًا، مِثَالُهُ: التَّأَذِّي بِالْقَمْلِ فِي الْحَجِّ مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَأَيُّ مَرَضٍ آذَى مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ أَبَاحَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالسَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ ; فَيُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَشَاقِّ، انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ الْأَنْصَارِيُّ.
وَأَقُولُ: فِيمَا اسْتَشْكَلَهُ مِنْ نَوْطِ مَا لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ بِالْعُرْفِ، نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ نَاطُوا بَعْضَ الْمَسَائِلِ بِالْعُرْفِ إِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ أَوِ
التَّصْنِيفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ كُلُّ فَرْدِ مِنْهُمُ الْعُرْفَ الْعَامَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَمَا اجْتَمَعَ عُلَمَاءُ عَصْرٍ أَوْ قُطْرٍ لِلْبَحْثِ عَنْ عُرْفِ النَّاسِ فِي أَمْرٍ وَمُحَاوَلَةِ ضَبْطِهِ وَتَحْدِيدِهِ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَالُوا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ. إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَقِيرَ الْبَائِسَ، وَالضَّعِيفَ الْمُنَّةِ (الْمُنَّةُ، بِالضَّمِّ: الْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ) وَالْغَنِيَّ الْمُتْرَفَ وَالْقَوِيَّ الْجَلَدَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَشُقُّ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَيَسْهُلُ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى الْجُمْهُورِ ; فَالرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ، وَمَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِمُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَتَعَرُّفِ شُئُونِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَتِ الدَّوَاهِي فِي آرَاءِ الْفُقَهَاءِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ: " الْفَقِيهُ هُوَ الْمُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ الْعَارِفُ بِأَهْلِ زَمَانِهِ "، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مِنَ التَّقْرِيبِ مَحَلُّهُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا عُرْفَ مِمَّا يَقَعُ لِلْأَفْرَادِ فَيَسْتَفْتُونَ فِيهِ، وَأَمَّا نَوْطُ كُلِّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِآرَاءِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، حَتَّى صَارُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ لِوَاذًا، وَيَفِرُّونَ مِنْ حَظِيرَتِهِ زُرَافَاتٍ وَأَفْذَاذًا، وَاسْتَبْدَلَ حُكَّامُهُمْ بِشَرْعِهِ قَوَانِينَ الْأَجَانِبِ، وَجَعَلُوا لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَنَسْخَ مَا شَاءُوا مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَقَاعِدَةَ رَفْعِ الْحَرَجِ الَّتِي تَمَّ بِهَا الْإِنْعَامُ، ذَكَّرَنَا بِمَا إِنْ ذَكَرْنَاهُ نَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ، وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ، فَقَالَ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أَيْ تَذَكَّرُوا يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ; إِذْ كُنْتُمْ كُفَّارًا مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ إِخْوَانًا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَاذْكُرُوا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ; أَيْ عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَكُمْ بِهِ حِينَ بَايَعْتُمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمُكْرَهِ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ; إِذْ قُلْتُمْ لَهُ سَمِعْنَا مَا أَمَرْتَنَا بِهِ وَنَهَيْتَنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute