للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا هُوَ النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ السَّادِسُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ فِي إِرْشَادِهِمْ إِلَى الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْمُقَاتِلِينَ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ الْغَالِبُ لِلنَّصْرِ وَالظَّفَرِ. وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ، وَغَلَبَتْ فِي جَمَاعَةِ الْمُقَاتِلِينَ وَالْحُمَاةِ النَّاصِرِينَ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى حَتَّى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ (٤: ٨٨) فَإِنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شَأْنِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِوُجُوبِ قِتَالِهِمْ، لِظُهُورِ نِفَاقِهِمْ وَبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِضِدِّهِ، فَهِيَ فِي مَوْضُوعِ الْقِتَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ (١٨: ٤٣) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَاللِّقَاءُ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي لِقَاءِ الْقِتَالِ أَيْضًا، حَتَّى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ غَالِبٌ فِيهِ. وَتَبِعَهُ كَثِيرُونَ وَكَوْنُ اللِّقَاءِ هُنَا لِفِئَةٍ يُعَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى الْغَالِبَ، وَيُبْطِلُ احْتِمَالَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.

وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً مِنْ أَعْدَائِكُمُ الْكُفَّارِ، وَكَذَا الْبُغَاةِ فِي الْقِتَالِ فَاثْبُتُوا لَهُمْ، وَلَا تَفِرُّوا مِنْ أَمَامِهِمْ - وَلَمْ يَصِفِ الْفِئَةَ لِلْعِلْمِ بِوَصْفِهَا مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا الْكُفَّارَ أَوِ الْبُغَاةَ - فَإِنَّ الثَّبَاتَ قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ طَالَمَا كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ الْأَخِيرُ لِلنَّصْرِ وَالْغَلَبِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ أَوِ الْجُيُوشِ: يَتَصَارَعُ الرَّجُلَانِ الْجَلْدَانِ فَيَعْيَا كُلٌّ مِنْهُمَا، وَتَضْعُفُ مِنَّتُهُ، وَيَتَوَقَّعُ فِي كُلِّ لَحْظَةِ أَنْ يَقَعَ صَرِيعًا فَيَخْطُرُ لَهُ أَنَّ خَصْمَهُ رُبَّمَا وَقَعَ قَبْلَهُ فَيَثْبُتُ، حَتَّى يَكُونَ بِثَبَاتِ الدَّقِيقَةِ الْأَخِيرَةِ هُوَ الصُّرْعَةُ الظَّافِرُ، وَكَذَلِكَ كَانَ جِلَادُ فَرِيقَيْ دُوَلِ أُورُبَّةَ فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ. فَقَدْ كَلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ نُقُودِهِ، وَنَقَصَ عَتَادُ حَرْبِهِ، وَوَهَنَتْ قُوَى جُنُودِهِ، وَمَادَّةُ غِذَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: " إِلَى السَّاعَةِ الْأَخِيرَةِ " حَتَّى كَانَ فَرِيقُ الْحِلْفِ الْبِرِيطَانِيِّ الْفِرَنْسِيِّ وَمِنْ مَعَهُ يَسْتَغِيثُ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ، وَيَسْأَلُونَهَا تَعْجِيلَ الْغَوْثِ بِالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، لَا بِالشُّهُورِ وَالْأَسَابِيعِ، ثُمَّ كَانَ لَهُ الْغَلَبُ بِأَسْبَابٍ أَهَمُّهَا وَآخِرُهَا الثَّبَاتُ، وَعَدَمُ الْيَأْسِ مِمَّا ذَاقُوا مِنْ بَأْسٍ. فَالْحِلْفُ الْأَلْمَانِيُّ فِي الْحَرْبِ وَمُخْتَرَعَاتُهُمْ فِيهَا مِنَ الْمَدَافِعِ الضَّخْمَةِ وَالطَّيَّارَاتِ تُمْطِرُهُمُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ، وَالْغَوَّاصَاتُ تَنْسِفُ

بَوَاخِرَهُمْ وَبَوَارِجَهُمْ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهَا إِلَخْ. وَكَذَلِكَ يُفِيدُ الثَّبَاتُ فِي كُلِّ أَعْمَالِ الْبَشَرِ فَهُوَ وَسِيلَةُ النَّجَاحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا أَيْ: وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللهِ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَتَضَاعِيفِهِ، اذْكُرُوهُ فِي قُلُوبِكُمْ بِذِكْرِ قُدْرَتِهِ، وَوَعْدِهِ بِنَصْرِ رُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَنَصْرِ كُلِّ مَنْ يَتَّبِعُ سُنَنَهُمْ بِنَصْرِ دِينِهِ، وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَبِذِكْرِ نَهْيِهِ لَكُمْ عَنِ الْيَأْسِ مَهْمَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ، وَبِأَنَّ النَّصْرَ بِيَدِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، فَمَنْ ذَكَرَ هَذَا، وَتَأَمَّلَ فِيهِ لَا تَهُولُهُ قُوَّةُ عَدُوِّهِ وَاسْتِعْدَادُهُ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْوَى مِنْهُ - وَاذْكُرُوهُ أَيْضًا بِأَلْسِنَتِكُمْ مُوَافَقَةً لِقُلُوبِكُمْ بِمِثْلِ التَّكْبِيرِ الَّذِي

<<  <  ج: ص:  >  >>