للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانِ أَنَّ لِلَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ لِرِسَالَتِهِ، وَأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ اصْطِفَائِهِ مُحَمَّدًا، وَقَدِ اصْطَفَى قَبْلَهُ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ جَاءَ فِي السِّيَاقِ ذِكْرُ قِصَّةِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ كُفْرِ بَعْضِ قَوْمِهِ بِهِ وَرَمْيِ أُمِّهِ بِالزِّنَا، وَإِيمَانِ بَعْضٍ، وَهُنَاكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ يَكْفُرْ بِعِيسَى وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بَلِ افْتُتِنَ بِهِ افْتِتَانًا لِكَوْنِهِ وُلِدَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ وُلِدَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَكَوْنِهِ مِنْ رُوحِ اللهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَلَّ فِي أُمِّهِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَجَسَّدَتْ فِيهِ فَصَارَ إِلَهًا وَإِنْسَانًا، فَضَرَبَ

لِلْكَافِرِينَ وَلِلْمَفْتُونِينَ مَثَلَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ أَعْجَبُ مَنْ خَلْقِ عِيسَى ; لِأَنَّ هَذَا خُلِقَ مِنْ حَيَوَانٍ مِنْ نَوْعِهِ وَذَاكَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، وَفِي الْكَلَامِ إِرْشَادُهُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْخَلِيقَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكُلُّهُ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا إِذَا تَفَكَّرْنَا فِي حَقِيقَتِهَا وَعِلَلِهَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ بِغَرِيبٍ عِنْدَ الْمُوجِدِ الْمُبْدِعِ، أَمَّا الْقَوَانِينُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْخَلِيقَةِ فَهِيَ قَدِ اسْتُخْرِجَتْ مِمَّا نَعْهَدُهُ وَنُشَاهِدُهُ، وَلَيْسَتْ قَوَانِينَ عَقْلِيَّةً قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَا عَدَاهَا، كَيْفَ وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا يُخَالِفُهَا كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْضَاءٌ زَائِدَةٌ وَالَّتِي تُولَدُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَتَرَوْنَ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي الْجَرَائِدِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا خَالَفَ مَا نَعْرِفُ لَا مَا يَعْلَمُ اللهُ - تَعَالَى -، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ لِكُلِّ هَذِهِ الشَّوَاذِّ وَالْفَلَتَاتِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً مُحْكَمَةً لَمْ تَظْهَرْ لَنَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ خَلْقِ عِيسَى، فَكَوْنُهُ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ لَيْسَ مَزِيَّةً تَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِلَهًا؟ وَإِذَا كَانَ عِيسَى قَدْ خُلِقَ مِنْ بَعْضِ جِنْسِهِ فَآدَمُ قَدْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَزِيَّةِ لَوْ كَانَتْ، وَبِالْإِنْكَارِ إِنْ صَحَّ، عَلَى أَنَّ مَا نَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ لَنَا مِنْهُ إِلَّا الظَّاهِرُ، نَصِفُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْقِلْهُ، وَمَاذَا نَعْقِلُ مِنَ الرَّابِطَةِ بَيْنَ الْحِسِّ وَالنُّطْقِ فِي الْإِنْسَانِ مَثَلًا؟ بَلْ مَاذَا نَعْقِلُ مِنْ أَمْرِ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ فِي نَبْتِهَا وَاسْتِوَائِهَا عَلَى سُوقِهَا وَتَنَاسُبِ أَوْرَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ عِيسَى وَغَيْرَهُ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَمْرِهِ، الْقَائِلِينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ جَاءَكَ عِلْمُ الْيَقِينُ.

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا يُظْهِرُ عِلْمَكَ الْحَقَّ وَارْتِيَابَهُمُ الْبَاطِلَ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ يُقَالُ: ابْتَهَلَ الرَّجُلُ دَعَا وَتَضَرَّعَ، وَالْقَوْمُ تَلَاعَنُوا، وَفُسِّرَ الِابْتِهَالُ هُنَا بِقَوْلِهِ: فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وَتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا نَصَارَى نَجْرَانَ لِلْمُبَاهَلَةِ فَأَبَوْا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: " أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نَفْلَحُ أَبَدًا وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. فَقَالَ لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>