للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي السَّرَّاءِ؛ نَنْتَفِعُ بِهَا إِذَا مَسَّتِ الضَّرَّاءُ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ تَدُولَ الدَّوْلَةُ لِلْيَهُودِ أَوِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْيَهُودُ عَوْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ظَهَرَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ وَالْأَحْزَابِ، فَيَحِلَّ بِهِمْ مَا يَحِلُّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ النِّقْمَةِ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِوَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ; لِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ نُبُوَّتِهِ، لَمْ يُوقِنُوا بِصِدْقِهَا وَلَا بِكَذِبِهَا، فَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْهَا بِإِظْهَارِهِمُ الْإِيمَانَ بِهَا، وَأَنْ يَتَّخِذُوا لَهُمْ يَدًا عَلَيْهَا لِأَعْدَائِهَا ; لِيَكُونُوا مَعَهُمْ إِذَا دَالَتِ الدَّوْلَةُ لَهُمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ كَثِيرًا مِنْ وُزَرَاءِ بَعْضِ الدُّوَلِ مُنْذُ قَرْنٍ أَوْ قَرْنَيْنِ مَا بَيْنَ رُوسِيٍّ وَإِنْكِلِيزِيٍّ وَأَلْمَانِيٍّ فِي سِيَاسَتِهِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ لَهُ يَدًا عِنْدَ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ يَلْجَأُ إِلَيْهَا إِذَا أَصَابَتْهُ دَائِرَةٌ، حَتَّى تَغَلْغَلَ نُفُوذُ هَذِهِ الدُّوَلِ فِي أَحْشَاءِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ، فَأَضْعَفْنَ اسْتِقْلَالَهَا فِي بِلَادِهَا، وَيُخْشَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ خَطَرِ نُفُوذِهِنَّ فِيهَا، وَحَتَّى صَارَ

بَعْضُ رِجَالِهَا الصَّادِقِينَ لَهَا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مُضْطَرِّينَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِنُفُوذِ بَعْضِ هَذِهِ الدُّوَلِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَعْمَرَ الْأَجَانِبُ بِلَادَهُمْ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِعْمَارَ، وَأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَأَمْرُ مُنَافِقِيهِمْ أَظْهَرُ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْأَجَانِبِ بِمَا يَضُرُّ أُمَّتَهُمْ، حَتَّى فِيمَا لَمْ يُكَلِّفُوهُمْ إِيَّاهُ، وَيُسَمُّونَ هَذَا تَأْمِينًا لِمُسْتَقْبَلِهِمْ، وَاحْتِيَاطًا لِمَعِيشَتِهِمْ، وَلَوِ الْتَزَمُوا الصِّدْقَ فِي أَمْرِهِمْ كُلِّهِ، فَلَمْ يَلْقَوْا أُمَّتَهُمْ بِوَجْهٍ وَالْأَجَانِبَ بِوَجْهٍ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْرَبَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْبِلَادِ وَمُدَارَاةِ الْأَجَانِبِ، وَلَكِنَّهُ النِّفَاقُ يَخْدَعُ صَاحِبَهُ بِمَا يَظُنُّ صَاحِبُهُ أَنَّهُ يَخْدَعُ بِهِ غَيْرَهُ وَيَسْلُكُ سَبِيلَ الْحَزْمِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِنِينَ عَلَى نَهْبِ مَالِ أُمَّتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ، وَإِيدَاعِهِ فِي مَصَارِفِ أُورُبَّةَ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِهِ، إِذَا دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى دَوْلَتِهِمْ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مُنَافِقِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ: (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) أَيْ فَالرَّجَاءُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَصِدْقِهِ مَا وَعَدَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يُعَادِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ; كَفَضِيحَتِهِمْ أَوِ الْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَيُصْبِحُوا نَادِمِينَ عَلَى مَا كَتَمُوهُ وَأَضْمَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَوَقُّعِ الدَّائِرَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْفَتْحُ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِفَتْحِ الْبِلَادِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) (٧: ٨٩) وَقَوْلُهُ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) (٣٢: ٢٨) وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَتْحُ مَكَّةَ، الَّذِي كَانَ بِهِ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَالثِّقَةُ بِقُوَّتِهِ، وَإِنْجَازُ اللهِ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ أَوَائِلَ السُّورَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَيُمْكِنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فَتْحَ بِلَادِ الْيَهُودِ فِي الْحِجَازِ كَخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمِ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ بِالْجِزْيَةِ تُضْرَبُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَنْقَطِعُ أَمَلُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَيَنْدَمُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>