للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) . . . إِلَخْ. فَهُوَ وَعِيدٌ لِمَنْ يُخَالِفُ النَّهْيَ ; أَيْ وَمَنْ يَنْصُرُهُمْ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ إِلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ لَا مِنْكُمْ ; لِأَنَّهُ مَعَهُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْ مُؤْمِنٍ صَادِقٍ ; فَهُوَ إِمَّا مُوَافِقٌ لِمَنْ وَالَاهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ، أَوْ فِي عَدَاوَتِهِمْ لِمَنْ وَالَاهُمْ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ، وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ فَقَدْ عَادَى مَنْ خَالَفَهُ وَسَخِطَهُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ انْتَهَى. وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ عَدُّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ) بَنِي تَغْلِبَ مِنَ النَّصَارَى لِمُوَالَاتِهِمْ لَهُمْ، وَأَجَازُوا أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ لِعَدِّهِمْ مِنَ النَّصَارَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ أَمْرِهِ بِأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَزَوَاجِ نِسَائِهِمْ وَتِلَاوَةِ الْآيَةِ: لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إِلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ، وَقَدْ قَيَّدَ ابْنُ جَرِيرٍ الْوِلَايَةَ بِكَوْنِهَا لِأَجْلِ الدِّينِ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ; إِذْ قَامَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُعَادُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَاتِلُونَهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُوَالَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ وَالْمُنَاصَرَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ لِمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ، فَإِذَا حَالَفَ الْمُسْلِمُونَ أُمَّةً غَيْرَ مُسْلِمَةٍ عَلَى أُمَّةٍ مِثْلِهَا ; لِاتِّفَاقِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَصْلَحَتِهَا، فَهَذِهِ الْمُحَالَفَةُ لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ ; لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ

ذَلِكَ لِمُقَاوَمَةِ الْمُسْلِمِينَ.

(إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ، وَبَيَانٌ لِسَبَبِهِ؛ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يُوَالِي أَعْدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَصَبُوا لَهُمُ الْحَرْبَ، وَيَنْصُرُهُمْ أَوْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ فَهُوَ ظَالِمٌ بِوَضْعِهِ الْوِلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَلَنْ يَهْتَدِيَ مِثْلُهُ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ أَبَدًا.

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) اتَّفَقَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ ; فَهُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ; أَيْ إِيمَانُهُمْ مُعْتَلٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ ; إِذْ لَمْ يَصِلُوا فِيهِ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْيَقِينِ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ - زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ - ذَا ضِلْعٍ مَعَ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَمُتُّونَ إِلَى الْيَهُودِ بِالْوَلَاءِ وَالْعُهُودِ، وَيُسَارِعُونَ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي سَلَكُوهَا. كُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِتَوْثِيقِ وَلَائِهِمْ وَتَأْكِيدِهِ ابْتَدَرُوهَا، فَهُمْ يُسَارِعُونَ فِي أَعْمَالِ مُوَالَاتِهِمْ مُسَارَعَةَ الدَّاخِلِ فِي الشَّيْءِ، الثَّابِتِ عَلَيْهِ، الرَّاغِبِ فِيمَا يُزِيدُهُ تَمَكُّنًا وَثَبَاتًا ; وَلِهَذَا قَالَ: (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) وَلَمْ يَقُلْ يُسَارِعُونَ إِلَيْهِمْ، فَمَا عَذَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرَدِّدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَلْسِنَتِهِمْ (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) أَيْ نَخْشَى أَنْ تَقَعَ بِنَا مُصِيبَةٌ كَبِيرَةٌ مِمَّا يَدُورُ بِهِ الزَّمَانُ، أَوْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالدَّوَاهِي الَّتِي تُحِيطُ بِالْمَرْءِ إِحَاطَةَ الدَّائِرَةِ بِمَا فِيهَا. فَنَحْتَاجُ إِلَى نُصْرَتِهِمْ لَنَا، فَنَحْنُ نَتَّخِذُ لَنَا يَدًا عِنْدَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>