للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا وَذَاكَ الْإِخْلَاصُ فِي إِيثَارِ مَا يَعْتَقِدُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِ، فَكَمَا

دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَّا إِذَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُمْ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّتُهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَضْعِيٌّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الْوَضْعِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ هُوَ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ تَدُلُّ آيَاتٌ أُخْرَى عَلَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ الْعَامِّ بِالْقِسْطِ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ، فَمَنْ دَسَّى نَفْسَهُ وَأَبْسَلَهَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللهِ كَمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَأَسْلَمَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ عَاقِلٌ: إِنَّ نُفُوسَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَكُونُ سَوَاءً مَهْمَا اخْتَلَفَتْ عَقَائِدُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْعَقْلِ وَإِدْرَاكِ الْحِسِّ، إِذْ لَمْ تُوجَدْ وَلَا تُوجَدُ أُمَّةٌ إِلَّا وَفِيهَا الصَّالِحُونَ وَالطَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَالْفُجَّارُ، وَالَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْهُدَى عَلَى دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى وَالْعَكْسُ. فَهَلْ يَكُونُ الْفَرِيقَانِ عِنْدَ الْحُكْمِ الْعَدْلِ سَوَاءً؟ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ (٥: ١٠٠) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١١: ٢٤) .

لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ نُبُوَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ شَهَادَتِهِمْ بِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ ; لِوُضُوحِهَا، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا الْمُبَاهَتَةَ وَالْمُكَابَرَةَ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِيمَانِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ يُثْبِتُ دَعْوَاهُ وَيَكُونُ شَاهِدًا لَهُ مُقْنِعًا لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُ أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ جَارٍ عَلَى شَنْشَنَتِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ وَحْيَهُ إِلَيْهِ هُوَ مِنْ جِنْسِ وَحْيِهِ إِلَى أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَيَشْهَدُونَ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ مَعَ وُضُوحِ أَمْرِ نُبُوَّتِكَ فِي نَفْسِهِ، لَا يَشْهَدُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانُوا يَشْهَدُونَ لِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، لَكِنَّ اللهَ يَشْهَدُ لَكَ بِهِ، فَإِنَّهُ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ إِلَيْكَ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (١١: ٤٩) مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (٤٢: ٥٢) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٢٩: ٤٨) فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْأُمَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ

الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ، مِنْ مَزْجِ هَذِهِ الْعُلُومِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مَزْجًا دَقِيقًا يُؤَلِّفُ بَيْنَ مَا كَانَ مَوْضُوعُهُ مِنْهَا أَعْلَى الْمَوْضُوعَاتِ ; كَالْمَسَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا أَدْنَى كَشُئُونِ الْكُفَّارِ وَالْمُجْرِمِينَ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ آيَاتِهِ كَالْكَثِيرِ مِنْهَا مُؤَثِّرًا فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَغْذِيَتِهَا بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْأَرْوَاحِ بِهِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُقِ وَالتَّصَادُقِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، عَلَى كَثْرَةِ عُلُومِهِ وَتَشَعُّبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>