للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى تَزُولَ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ بِالتَّعْذِيبِ، وَضُرُوبِ الْإِيذَاءِ لِأَجْلِ تَرْكِهِ، كَمَا فَعَلُوا فِيكُمْ عِنْدَمَا كَانَتْ لَهُمُ الْقُوَّةُ وَالسُّلْطَانُ فِي مَكَّةَ، حَتَّى أَخْرَجُوكُمْ مِنْهَا لِأَجْلِ دِينِكُمْ ثُمَّ صَارُوا يَأْتُونَ لِقِتَالِكُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ، وَحَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَفْتِنَ أَحَدًا عَنْ دِينِهِ; لِيُكْرِهَهُ عَلَى تَرْكِهِ إِلَى دِينِ الْمُكْرِهِ لَهُ فَيَتَقَلَّدُهُ تُقْيَةً وَنِفَاقًا - وَنَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى بِتَعْبِيرِ هَذَا الْعَصْرِ: وَيَكُونُ الدِّينُ حُرًّا، أَيْ يَكُونُ النَّاسُ أَحْرَارًا فِي الدِّينِ لَا يُكْرَهُ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِهِ إِكْرَاهًا، وَلَا يُؤْذَى وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ تَعْذِيبًا، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (٢: ٢٥٦) وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ تَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا مُنْذُ الصِّغَرِ فَأَرَادُوا إِكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُكْرِهُوا عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ دُونِهِمْ، وَمَا رَضِيَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِي مُعَاهَدَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْمُشْرِكُونَ إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الصُّلْحِ الْمَانِعِ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، الْمُبِيحِ لِاخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِسْمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ، إِذْ كَانَ هَذَا إِبَاحَةً لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِرُؤْيَةِ الْمُشْرِكِينَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمُشَاهَدَتِهِمْ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ دُخُولُهُمْ فِي

الْإِسْلَامِ بَعْدَهَا، وَسَمَّى اللهُ هَذَا الصُّلْحَ فَتْحًا مُبِينًا. وَأَمَّا وُرُودُ الْحَدِيثِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ مَنْعِ الْعَبَثِ بِالْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ سَبَبٌ سِيَاسِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.

هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَارِيخِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْفِتْنَةِ بِالشِّرْكِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. أَقُولُ: عَلَيْهِ جُمْهُورُ مُؤَلِّفِي التَّفَاسِيرِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الْخَلَفِ، قَالُوا: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ وَتَزُولَ الْأَدْيَانُ الْبَاطِلَةُ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ، وَسَيَتَحَقَّقُ مَضْمُونُهَا إِذَا ظَهَرَ الْمَهْدِيُّ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مُشْرِكٌ أَصْلًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ هَذَا الْأَلُوسِيُّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَلَا فَرْعًا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (٤٩: ٩) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَلَّا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أُعَيَّرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعَيَّرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا (٤: ٩٣) إِلَى آخِرِهَا. قَالَ: فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا. فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ، إِمَّا يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا يُوثِقُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ " إِلَخْ فَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُفَسِّرُ الْفِتْنَةَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ بِمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُمَا وَيَقُولُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>