للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سُنَنُ اللهِ وَحِكَمُهُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ وَأَمْثَالِهَا وَالِاعْتِبَارُ بِهَا "

مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْعَقَائِدَ بِدَلَائِلِهَا، وَالْأَحْكَامُ مُؤَيَّدَةٌ بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا، وَالْقَصَصُ مَقْرُونَةٌ بِوُجُوهِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِهَا وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ التِّسْعَةِ الَّتِي قَفَى بِهَا عَلَى قَصَصِ الْقَوْمِ الْمُهْلِكِينَ.

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذَنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ الْوَاوُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ، وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السِّيَاقِ الَّذِي وَضَعْنَا لَهُ الْعُنْوَانَ عَلَى مَجْمُوعِ مَا قَبَلَهُنَّ مِنَ الْقَصَصِ، لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي كَوْنِهِ حِكَمًا لَهُ وَعِبَرًا مُسْتَفَادَةً مِنْهُ، فَعَطْفُ الْجُمَلِ يَشْمَلُ الْكَثِيرَ مِنْهَا، كَالسِّيَاقِ بِرُمَّتِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْفَصْلِ هُنَا، وَالْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ الْجَامِعَةُ لِزُعَمَاءِ الْأُمَّةِ وَرُؤَسَائِهَا الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْعَاصِمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُبْعَثُونَ فِي الْقُرَى الْجَامِعَةِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْبِلَادِ تَتْبَعُ أَهْلَهَا إِذَا آمَنُوا، وَالْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ كَالْحَرْبِ وَالْجَدْبِ وَشِدَّةِ الْفَقْرِ، وَالضَّرَّاءُ: مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي بَدَنِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ مَعِيشَتِهِ وَالْأَخْذِ بِهَا: جَعَلَهَا عِقَابًا، وَقَدْ تَكُونُ تَجْرِبَةً وَتَرْبِيَةً نَافِعَةً، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٦: ٤٢) فَيُرَاجَعُ (فِي ص ٣٤٥ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) فَإِنَّهُ بِمَعْنَى مَا هُنَا، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ مُخْتَلِفٌ، فَلَمَّا كَانَ مَا هُنَا قَدْ وَرَدَ عَقِبَ قَصَصِ طَائِفَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، جُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى قَاعِدَةً كُلِّيَّةً وَسُنَّةً مُطَّرِدَةً فِي الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِيَعْتَبِرَ بِهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ قَرَأَهُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَمَّا كَانَ مَا هُنَالِكَ قَدْ وَرَدَ فِي سِيَاقِ تَبْلِيغِ خَاتَمِ الرُّسُلِ لِلدَّعْوَةِ وَمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، جَعَلَ خِطَابًا خَبَرِيًّا لَهُ، لِتَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ قَلْبِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِتَخْوِيفِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَإِنْذَارِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مُلَاحَظٌ هُنَا أَيْضًا، وَلَكِنْ بِالتَّبَعِ لِلِاعْتِبَارِ بِالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ.

وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ شَأْنُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْهَالِكِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَا نَبِيًّا فِي

قَوْمِهِ إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَنَا بِهِمُ الشَّدَائِدَ وَالْمَصَائِبَ بَعْدَ إِرْسَالِهِ أَوْ قُبَيْلَهُ، لِنَعُدَّهُمْ وَنُؤَهِّلَهُمْ بِهَا لِلتَّضَرُّعِ، وَهُوَ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ؛ أَيِ الضَّعْفِ وَالْخُضُوعِ لَنَا وَالْإِخْلَاصِ فِي دُعَائِنَا بِكَشْفِهَا، فَـ " لَعَلَّ " تُفِيدُ الْإِعْدَادَ لِلشَّيْءِ، وَجَعْلَهُ مَرْجُوًّا، وَمِمَّا ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ وَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ أَنَّ الشَّدَائِدَ وَمَلَاحِجَ الْأُمُورِ مِمَّا يُرَبِّي النَّاسَ، وَيُصْلِحُ مِنْ فَسَادِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ قَدْ يَشْغَلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>