للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَافْتُتِحَتِ الْقِصَّةُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ; لِإِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا لِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَقَدَّمْنَا بَيَانَ مَا كَانَ لِلْقَسَمِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَأْكِيدِ الْكَلَامِ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي كَلَامِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مَنْ عُرِفَ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بِبَيَانِ وَظِيفَتِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ لَهُمْ، أَوْ قَائِلًا لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بَيِّنُ الْإِنْذَارِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ مَعَ بَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَهُ فَلَمْ يُذْعِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْإِرْسَالَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ:

(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، بَلِ اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (وَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ) وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَاتَّخَذُوا لَهُ الْأَنْدَادَ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أَيْ شَدِيدِ الْأَلَمِ ; وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِالطُّوفَانِ، وُصِفَ بِالْأَلَمِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ مَنْ يُعَذَّبُ فِيهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٧: ٥٩) أَيْ أَلَمُهُ وَهَوْلُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ نُوحٌ جَامِعًا لِمَعْنَى الْأَلَمِ وَمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِ ; إِذِ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْمَعَانِيَ الْمَحْكِيَّةَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ، وَيَأْتِي فِي بَعْضِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِهِ: (أَفَلَا تَتَّقُونَ) (٢٣: ٢٣) وَمِثْلُهُ فِيهَا عَنِ الرَّسُولِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالتَّقْوَى، كَمَا كَرَّرَ حِكَايَتَهُ عَنْهُمْ فِي الشُّعَرَاءِ، إِذِ التَّقْوَى مِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ.

(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أَيْ فَبَادَرَ الْمَلَأُ، أَيِ الْأَشْرَافُ وَالزُّعَمَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْجَوَابِ لِيَكُونَ الدَّهْمَاءُ تَبَعًا لَهُمْ كَعَادَتِهِمْ،

وَاقْتَرَنَ جَوَابُهُمْ هُنَا بِـ ((الْفَاءِ)) ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الرَّدِّ السَّرِيعِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَفْصُولًا وَهُوَ: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٧: ٦٠) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْمُرَاجَعَةِ يُقَالُ:. . قَالَ. . . . . وَيُسَمَّى الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمَوْصُولَ بِالْفَاءِ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى نُوحٍ بِمَا يُبْطِلُ دَعْوَتَهُ بِزَعْمِهِمْ، وَالْمَفْصُولُ لَيْسَ إِلَّا طَعْنًا وَتَخْطِئَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ لَا يُعْلَمُ مَتَى وَقَعَ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ جَوَابًا مُتَّصِلًا بِالدَّعْوَةِ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ!

(مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا) فِي الْجِنْسِ، لَا مَزِيَّةَ لَكَ عَلَيْنَا تَكُونُ بِهَا نَذِيرًا لَنَا نُطِيعُكَ وَنَتَّبِعُكَ مُذْعِنِينَ لِنَبُّوتِكَ وَرِسَالَتِكَ (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) أَيْ أَرْدِيَاؤُنَا وَأَخِسَّاؤُنَا يُقَالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ أَوِ الْمَرْءُ بِضَمِّ الذَّالِ (كَضَخُمَ) فَهُوَ رَذْلٌ بِسُكُونِهَا (كَضَخْمٍ) وَجَمْعُهُ أَرْذُلٌ بِضَمِّ الذَّالِ، وَجَمْعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>