للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَكُونُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ عَنِ الذَّنْبِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ يُفَسِّرُهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ ذَنْبِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُ وَيَمْتَازَ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ قَالَ بَعْدَهَا: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) (٥٥: ٤١) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ لَا يُسْأَلُونَ وَبِمَ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَازُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ حَمْلِ آيَةِ الْقَصَصِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ هَلْ أَذْنَبْتَ أَوْ هَلْ فَعَلْتَ كَذَا مِنَ الذُّنُوبِ؟ أَيْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْهُ بِذُنُوبِهِ وَقَدْ أَحْصَاهَا عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَهُوَ يَجِدُ مَا عَمِلَ حَاضِرًا فِي كِتَابِهِ مُتَمَثِّلًا فِي نَفْسِهِ، مَعْرُوضًا لَهَا فِيمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ - وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ لِمَ عَمِلَ كَذَا - أَيْ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ تَفْسِيرِهِ هُنَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا

كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَصْلُ الْقَصِّ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مُوسَى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (٢٨: ١١) وَبِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (١٢: ٣) وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْمُتَتَبَّعَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ قَصَصًا، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَصًا بِعِلْمٍ مِنَّا، يُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، أَوْ عَالِمِينَ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ وَمَا كَتَبَهُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ عَنْهُمْ (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عَنْهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُنَّا مَعَهُمْ نَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَنُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ، وَنُحِيطُ عِلْمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ، كَمَا قَالَ: (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (٤: ١٠٨) فَالسُّؤَالُ لِأَجْلِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، لَا لِأَجْلِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِعْلَامِ، وَهَذَا الْقَصَصُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحِسَابُ وَيَتْلُوهُ الْجَزَاءُ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِهِ كَثِيرَةٌ.

أَمَّا الْآيَاتُ فَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْإِمَامُ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ " وَوَرَدَ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَأَعِدُّوا لِلْمَسَائِلِ جَوَابًا " قَالُوا: وَمَا جَوَابُهَا؟ قَالَ: " أَعْمَالُ الْبِرِّ " وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِنَّ اللهَ سَائِلُ كُلِّ ذِي رَعِيَّةٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَقَامَ أَمْرَ اللهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>