فَرَجَعُوا إِلَيْهِ طَالِبِينَ مَغْفِرَتِهِ، رَاجِينَ رَحْمَتَهُ، مُلْتَزِمِينَ سُنَّتَهُ، وَارِدِينَ شِرْعَتَهُ، عَالِمِينَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ يَضِلُّ مَنْ يَدْعُونَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَّا إِيَّاهُ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِسُنَنِهِ فِيهِ،
وَالْحَاكِمُ بِسُلْطَانِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيعِ، فَهَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ غَيْرُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ إِلَخْ. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ لَا يُصِرُّ الْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا عَلَى ذَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى عَنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِرُّ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى صَاحِبُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الذُّنُوبَ فُسُوقٌ عَنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى قَانُونِ الشَّرِيعَةِ الْقَوِيمَةِ وَبُعْدٌ عَنْ مَقَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ إِلَى قُرْبِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ يَخْضَعُ لِقَوَانِينِ الْحُكَّامِ الْوَضْعِيَّةِ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَمَنْ يَخْضَعُ لَهَا احْتِرَامًا لِلنِّظَامِ، وَمَا أَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ - تَعَالَى -:
كُلُّهُمْ يَعْبُدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ... وَيَرَوْنَ النَّجَاةَ حَظًّا جَزِيلَا
أَوْ لِأَنْ يَسْكُنُوا الْجِنَانَ فَيَحْظَوْا ... بِقُصُورٍ وَيَشْرَبُوا سَلْسَبِيلَا
لَيْسَ لِي فِي الْجَنَانِ وَالنَّارِ حَظٌّ ... أَنَا لَا أَبْتَغِي سِوَاكَ بَدِيلَا
فَالْآيَةُ هَادِيَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ لَا يُصِرُّونَ عَلَى ذَنْبٍ يَرْتَكِبُونَهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ; لِأَنَّ ذِكْرَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَمْنَعُ الْمُؤْمِنَ بِطَبِيعَتِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الذَّنْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ مُتَلَازِمَانِ، وَقَدْ قَالُوا إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ يَجْعَلُهَا كَبِيرَةً، وَهَذَا أَقَلُّ مَا يُقَالُ فِيهَا، وَرُبَّ كَبِيرَةٍ أَصَابَهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ وَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا - فَكَانَتْ دَائِمًا مُذَكِّرَةً لَهُ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَسُلْطَانِ الْغَضَبِ أَوِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ مُقَاوَمَةِ هَذَا السُّلْطَانِ طَلَبًا لِلْكَمَالِ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّحْمَنِ، خَيْرٌ مِنْ صَغِيرَةٍ يَقْتَرِفُهَا الْمَرْءُ مُسْتَهِينًا بِهَا مُصِرًّا عَلَيْهَا فَتَأْنَسُ نَفْسُهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَتَزُولُ مِنْهَا هَيْبَةُ الشَّرِيعَةِ، فَيَتَجَرَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَيَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَرَأَيْتُ الْمُفَسِّرِينَ يُورِدُونَ هُنَا حَدِيثَ مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وَمِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ يَرَاهُ فَيَغْتَرُّ بِهِ ظَانًّا أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِاللِّسَانِ كَافٍ فِي التَّوْبَةِ وَمُنَافَاةِ الْإِصْرَارِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ كَالْمُفَسِّرِ لِلْآيَةِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَكُلَّمَا أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا حَرَّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةِ " أَسْتَغْفِرُ اللهَ " مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ وَرُبَّمَا عَدَّ مِائَةً أَوْ أَكْثَرَ وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ لَا عَنْ كَوْنِ اللَّفْظِ كَفَّارَةً. عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِضَعْفِهِ. وَرَاجِعْ بَحْثَ الِاسْتِغْفَارِ
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [٣: ١٧] وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ فَهِمْتَ مَعْنَاهَا وَأَنَّهَا جَعَلَتْ كُلًّا مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute