مُقَلَّدًا وَلَا غَيْرَ مُقَلَّدٍ، وَخُصَّ الْمُقَلَّدُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْهَدْيِ وَأَشْرَفُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْكَشَّافِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقَلِّدُونَ إِلَّا الْبُدُنَ (الْإِبِلَ) وَقِيلَ: الْهَدْيُ هُوَ مَا لَمْ يُقَلَّدْ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ (٢٤: ٣١) : لَا يُبْدِينَ مَوَاضِعَ زِينَتِهِنَّ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ مَنْ يَتَقَلَّدُ مِنَ النَّاسِ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ مُحَرِمٌ، وَكَانَ مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ يَرْجِعُ مِنْهُ، يَتَقَلَّدُ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِهِ لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ، فَأَقَرَّ اللهُ تَأْمِينَ الْمُقَلَّدِ لِتَعْلَمَ الْعَرَبُ أَنَّ مَنْ تَقَلَّدَ لِأَجْلِ النُّسُكِ كَانَ فِي جِوَارِ الْمُسْلِمِينَ وَحِمَايَتِهِمْ، وَبِهَذَا فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْمَنْعُ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لِأَجْلِ التَّقَلُّدِ بِهِ عِنْدَ الْعَوْدَةِ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ هَذَا مِنِ اسْتِحْلَالِ قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ أَوِ الْتِحَائِهِ، أَيْ: أَخْذِ قِشْرِ شَجَرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ تَحْرِيمُ التَّعَرُّضِ لِلْقَلَائِدِ نَفْسِهَا بِإِزَالَتِهَا، وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُقَلَّدِ بِهَا مِنَ الْهَدْيِ ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ إِحْلَالِ الْقَلَائِدِ حَقِيقَةً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِحْلَالِ الْقَلَائِدِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِ ذَوَاتِ الْقَلَائِدِ بِالْأَوْلَى، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي، وَأَمَّا
مَنْ يَقْصِدُ الْحَرَمَ لِلنُّسُكِ أَوْ غَيْرِ النُّسُكِ فَقَدْ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أَيْ وَلَا تُحِلُّوا قِتَالَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، أَيْ قَاصِدِيهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، يُقَالُ: أَمَّهُ، وَيَمَّمَهُ، وَتَيَمَّمَهُ: إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَعَمَدَهُ، وَقَصَدَ إِلَيْهِ قَصْدًا مُسْتَقِيمًا لَا يَلْوِي إِلَى غَيْرِهِ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ بَيْتُ اللهِ الْمَعْرُوفُ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ الَّذِي حَرَّمَهُ وَمَا حَوْلَهُ، أَيْ مَنَعَ أَنْ يُصَادَ صَيْدُهُ، وَأَنْ يُقْطَعَ شَجَرُهُ وَأَنْ يُخْتَلَى خَلَاهُ ; أَيْ يُؤْخَذَ نَبَاتُهُ وَحَشِيشُهُ، وَجَعَلَهُ آمِنًا لَا يُرَوَّعُ مَنْ دَخَلَهُ. رَاجِعْ وَمِنْ دَخْلِهِ كَانَ آمِنًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا أَيْ يَطْلُبُونَ بِأَمِّهِمُ الْبَيْتَ وَقَصْدِهِ التِّجَارَةَ وَالْحَجَّ مَعًا، أَوْ رِبْحًا فِي التِّجَارَةِ وَرِضَاءً مِنَ اللهِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَحُلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرَوَاهُ عَنْ أَهْلِ الْأَثَرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ، فَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ يَلْتَمِسُونَ فَضْلَ اللهِ، وَرِضْوَانَهُ فِيمَا يُصْلِحُ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَالْفَضْلُ وَالرِّضْوَانُ الَّذِي يَبْتَغُونَ أَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِيهَا.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ وَالتِّجَارَةَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَحُجُّ وَيَحْمِلُ مَعَهُ مَتَاعًا " لَا بَأْسَ بِهِ " وَتَلَا الْآيَةَ. وَلَمْ يُرْوَ فِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " يَتَرَضَّوْنَ رَبَّهُمْ بِحَجِّهِمْ " وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ; أَنَّهُ فَسَّرَ الْفَضْلَ مِنْ رَبِّهِمْ بِالتِّجَارَةِ، وَالرِّضْوَانَ بِالْحَجِّ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مِنَ الْآيَةِ مَنْسُوخَةٌ، بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (٩: ٥)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute