للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (١١: ٨٠) إِلَخْ، إِلَّا لَفْظَ الْمَأْوَى فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَنَّةِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ وَعَلَى النَّارِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْهَا آيَةُ يُونُسَ هَذِهِ، وَفِي تَسْمِيَةِ دَارِ الْعَذَابِ مَأْوًى مَعْنًى دَقِيقٌ فِي الْبَلَاغَةِ دَخِيلٌ فِي أَعْمَاقِهَا، فَائِضٌ مِنْ جَمِيعِ أَرْجَائِهَا، يُشْعِرُكَ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُطْمَئِنِّينَ بِالشَّهَوَاتِ، وَالْغَافِلِينَ عَنِ الْآيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ مَصِيرٌ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ هَوْلِ الْحِسَابِ، إِلَّا جَهَنَّمَ دَارَ الْعَذَابِ، فَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ لَهُ كَالْمَلْجَأِ وَالْمَوْئِلِ؛ إِذْ لَا مَأْوَى لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا.

هَذَا بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِقَسَمَيْهِ، وَالْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لَهُ تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَالْعِلْمِ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) أَيْ يَهْدِيهِمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِهِ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ، وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ لَازِمُ الْإِيمَانِ وَمُغَذِّيهِ وَمُكَمِّلُهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي؛ لِبَيَانِ صِنْفِهِمْ وَفَرِيقِهِمُ الْمُقَابِلِ لِلْفَرِيقِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِهِدَايَةِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ كَسْبِ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ سَبَبَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ لَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِيهِمُ الصِّرَاطَ

الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ فِيهَا: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أَيْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ مَقَاعِدِهِمْ مِنْ غُرُفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ وَمِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، وَتَقَدَّمَ لَفْظُ: جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥: ٦٥) وَلَفْظُ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ٤٣) وَأَمَّا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَعْنِي الْجَنَّةَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مُكَرَّرًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ - وَهُوَ الْعَمَلُ - لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَالِ مَنْ يَمُوتُ عَقِبَ إِيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ، وَدُخُولُ مِثْلِ هَذَا الْجَنَّةِ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْعَامَّةَ لِلْأَحْوَالِ الْعَادِيَّةِ الْغَالِبَةِ.

(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ لِكَلِمَاتٍ ثَلَاثٍ، تُمَثِّلُ حَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ مَبَادِئِ دُعَاءِ رَبِّهِمْ وَتَنْزِيهِهِ، وَمَا يَدْعُونَهُ أَيْ يَطْلُبُونَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِ تَعَالَى وَتَحِيَّةِ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ تَزَاوُرِهِمْ أَوْ تَلَاقِيهِمْ، وَمِنْ حَمْدِهِمْ لَهُ فِي خَوَاتِيمِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهِيَ خَيْرُ الْكَلِمِ وَأَخْصَرَهُ وَأَعْذَبَهُ. الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ وَالدَّعَاوَةُ فِي الشَّيْءِ وَالِادِّعَاءُ لِلشَّيْءِ، فَالدُّعَاءُ لِلنَّاسِ هُوَ النِّدَاءُ وَالطَّلَبُ الْمُعْتَادُ بَيْنَهُمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ التَّعَبُّدِيُّ لِلَّهِ نِدَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَالرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ، الصَّادِرُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالضَّرَاعَةِ لَهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا دَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>