للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ هَدَاهُمْ إِلَى اتِّقَاءِ ضَرَرِ الصَّوَاعِقِ فِي الْمَبَانِي الْعَظِيمَةِ بِوَضْعِ مَا يُسَمُّونَهُ قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ عَلَيْهَا، فَيَمْتَنِعُ بِسُنَّةِ اللهِ نُزُولُهَا بِهَا. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ الْقَادِرُ الْمُقَدِّرُ قَدْ جَعَلَ هَلَاكَهُمْ فِي وَقْتٍ سَاقَ فِيهِ السَّحَابَ الْمُتَشَبَّعَ بِالْكَهْرَبَاءِ إِلَى أَرْضِهِمْ بِأَسْبَابِهِ الْمُعْتَادَةِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ تِلْكَ الصَّاعِقَةَ لِأَجْلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْوَاقِعُ فَالْآيَةُ قَدْ وَقَعَتْ وَصَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ فِي إِنْذَارِ قَوْمِهِ.

(فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) دَارُ الرَّجُلِ مَا يَسْكُنُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ " مُؤَنَّثَةٌ " وَتَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى عِدَّةِ بُيُوتٍ، وَالْبَلَدُ دَارٌ لِأَهْلِهِ، وَدَارُ الْإِسْلَامِ الْوَطَنُ الَّذِي تُنَفَّذُ فِيهِ شَرَائِعُهُ وَهِيَ دَارُ الْعَدْلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ الْحَقُّ، وَيُقَابِلُهَا دَارُ الْكُفْرِ وَدَارُ الْحَرْبِ. وَالْجُثُومُ لِلْإِنْسَانِ والطَّيْرِ كَالْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ، فَالْأَوَّلُ وُقُوعُ النَّاسِ عَلَى رُكَبِهِمْ وَخَرُورُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالثَّانِي وُقُوعُ الطَّيْرِ لَاطِئَةً بِالْأَرْضِ فِي حَالِ

سُكُونِهَا بِاللَّيْلِ، أَوْ قَتْلِهَا فِي الصَّيْدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا وَقَدْ وَقَعَتِ الصَّاعِقَةُ بِهِمْ أَنْ سَقَطُوا مَصْعُوقِينَ، وَجَثَمُوا هَامِدِينَ خَامِدِينَ. " وَأَصْبَحُوا " إِمَّا بِمَعْنَى صَارُوا وَإِمَّا بِمَعْنَى دَخَلُوا فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ جَاثِمِينَ.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) فِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْهَلَ قَوْمَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَتَمَتَّعُونَ فِيهَا بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ أَنْجَاهُ اللهُ تَعَالَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَأَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْبَاقِينَ الظَّالِمِينَ بَعْدَ إِنْجَائِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ صَيْحَةِ الصَّاعِقَةِ الطَّاغِيَةِ الْمُتَجَاوِزَةِ لِلْحَدِّ الْمُعْتَادِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَلَّى عَنْهُمْ عَقِبَ هَلَاكِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ، وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الذِّكْرِ، كَتَقَدُّمِ مَدْلُولِهَا بِالْفِعْلِ، وَلَكِنْ عُهِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَرْكُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَعَانِي لِنُكَتٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامٌ يُعْرَفُ فِيهِ التَّرْتِيبُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي الظُّهُورِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْآيَتَيْنِ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ إِعْذَارِ صَالِحٍ إِلَى قَوْمِهِ بِإِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ وَمَحْضِهِمُ النَّصِيحَةَ، وَمِنْ تَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ أَفْنَ الرَّأْيِ وَفَسَادَ الْأَخْلَاقِ بِكُرْهِ النَّاصِحِينَ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ - إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ التَّوَلِّي وَالِانْصِرَافِ عَنْهُمْ أَوْ عِنْدَهُ وَلَكِنْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ.

وَفِيهِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ الَّذِي سَبَقَ مِثْلُهُ فِي قِصَّتَيْ نُوحٍ وَهُودٍ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَهُ طَرِيقٌ مَسْلُوكٌ، وَأُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ، وَآخَرُ مَرْوِيٌّ مَأْثُورٌ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا يَقُولُهُ الْمُتَحَسِّرُ عَلَى مَنْ مَاتَ جَانِيًا عَلَى حَيَاتِهِ بِالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ، الْمُعَزِّي لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ، وَالْمُتَحَزِّنُ لِعَدَمِ قَبُولِهِ مَا بَذَلَ مِنَ النُّصْحِ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذِهِ الْمُسْكِرَاتِ؟ أَلَمْ أُحَذِّرْكَ عَاقِبَةَ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتِ فَمَاذَا أَفْعَلُ إِذَا كُنْتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>