للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَيْنَ نَاقَةِ اللهِ وَأَرْضِ اللهِ، أَيْ: فَذَرُوا وَاتْرُكُوا نَاقَتَهُ تَأْكُلْ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي خَلَقَهَا وَأَبَاحَهَا لِخَلْقِهِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّوءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ أَنَّ الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَيِّ أَنَوْاعِ الْإِيذَاءِ لَهَا فِي نَفْسِهَا أَوْ أَكْلِهَا أَوْ شُرْبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ وَقَدْ عَقَرُوهَا! .

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) أَيْ وَتَذَكَّرُوا إِذْ جَعَلَكُمُ اللهُ تَعَالَى خُلَفَاءَ لِعَادٍ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ أَنْزَلَكُمْ فِيهَا وَجَعَلَهَا مَبَاءَةً وَمَنَازِلَ لَكُمْ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا زَاهِيَةً، وَدُورًا عَالِيَةً، بِمَا حَذَقْتُمْ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ كَضَرْبِ الْآجُرِّ وَاللَّبِنِ وَالْجَصِّ وَهَنْدَسَةِ الْبِنَاءِ وَدِقَّةِ النِّجَارَةِ. وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ أَيْ بَعْضَهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (مِنَ الْجِبَالِ) (٢٦: ١٤٩) بُيُوتًا بِمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ فَنِّ النَّحْتِ، وَآتَاكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالصَّبْرِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْجِبَالَ فِي الشِّتَاءِ لِمَا فِي الْبُيُوتِ الْمَنْحُوتَةِ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْأَمْطَارُ وَالْعَوَاصِفُ، وَيَسْكُنُونَ السُّهُولَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ لِأَجْلِ الزِّرَاعَةِ وَالْعَمَلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْقُصُورُ فِيهَا مَتِينَةً وَلَا الطُّرُقُ مَرْصُوفَةً، بِحَيْثُ يَرْتَاحُ سُكَّانُهَا فِي أَيَّامِ الْأَمْطَارِ الشَّدِيدَةِ.

(فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أَيْ فَتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْكُرُوهَا لَهُ بِتَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ، وَلَا تَسْتَبْدِلُوا الْكُفْرَ بِالشُّكْرِ فَتَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. يُقَالُ: عَثَى يَعْثَى وَعَثِيَ يَعْثِي، " مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَعَلِمَ " عَثْيًا وَعَثَيَانًا وَعَثَا يَعْثُو عَثَوًا بِمَعْنَى أَفْسَدَ وَكَفَرَ وَتَكَبَّرَ وَمِثْلُهُ مَقْلُوبَةٌ: عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَعَيَثَانًا. وَفِيهِ مَعْنَى الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ مَعَ الْإِفْسَادِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَيْثُ وَالْعَثْيُ يَتَقَارَبَانِ نَحْوَ جَذَبَ وَجَبَذَ إِلَّا أَنَّ الْعَيْثَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْفَسَادِ الَّذِي يُدْرَكُ حِسًّا، وَالْعَثْيُ فِيمَا يُدْرَكُ حُكْمًا اهـ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَتَصَرَّفُوا فِي هَذِهِ النِّعَمِ تَصَرُّفَ عَثَيَانٍ وَكُفْرٍ بِمُخَالَفَةِ مَا يُرْضِي اللهَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِفْسَادِ ثَابِتِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا عَلِمْتَ.

(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَسْبِقَ الْفُقَرَاءُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ النَّاسِ إِلَى إِجَابَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَإِلَى كُلِّ دَعْوَةِ إِصْلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ

لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِغَيْرِهِمْ وَأَنْ يَكْفُرَ بِهِمْ أَكَابِرُ الْقَوْمِ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَالْأَغْنِيَاءُ الْمُتْرَفُونَ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مَرْءُوسِينَ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي تُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْإِسْرَافَ الضَّارَّ. وَتُوقِفُ شَهَوَاتِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَالِ. وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَرَى الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>