للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) وَهُوَ الَّذِي أَوَّلَ لَهُ رُؤْيَاهُ بِأَنَّهُ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَتَأْوِيلُهَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاتِهِ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَتْوَاهُ بَعْدَهُ عَنْ وَحْيٍ نَبَوِيٍّ كَمَا رَجَّحْنَا لَا تَتِمَّةَ لِتَأْوِيلِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ نَجَاتِهِ

بِالظَّنِّ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ قَضَاءِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْرِضَ مَا يَحُولُ دُونَ تَنْفِيذٍ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَا فَهِمَهُ أَبُوهُ مِنْهَا مِنْ أَمْرِ مُسْتَقْبَلِهِ، أَنَّ عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِجْمَالِيٌّ إِلَخْ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِي هَذِهِ الدَّعْوَى نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا مَحَلَّ لِإِعَادَتِهِ هُنَا: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أَيْ عِنْدَ سَيِّدِكَ الْمَلِكِ، بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَعَلِمْتَ مِنْ أَمْرِي عَسَى أَنْ يُنْصِفَنِي مِمَّنْ ظَلَمُونِي وَيُخْرِجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَهَذَا الذِّكْرُ يَشْمَلُ دَعْوَتَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَتَأْوِيلَهُ لِلرُّؤْيَا، وَإِنْبَاءَهُمْ بِكُلِّ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ إِتْيَانِهِ، وَآخِرُهُ فَتْوَاهُ الصَّرِيحَةُ فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُذَكِّرَهُ بِهِ كُلَّمَا قَدَّمَ لِلْمَلِكِ شَرَابَهُ (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أَيْ أَنْسَى السَّاقِي تَذُكُّرَ رَبِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ يُوسُفَ عِنْدَهُ عَلَى حَدِّ: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) ١٨: ٦٣ (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) مَنْسِيًّا مَظْلُومًا، وَالْفَاءُ عَلَى هَذَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْجَارِي عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - الْآتِي قَرِيبًا: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ٤٥ أَيْ تَذَكَّرَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ وَتَقْدِيرٍ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَيْهِ لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَكَرَ إِخْبَارَ رَبِّهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَمَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ وَهُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَعَاقَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِإِبْقَائِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

وَقَالُوا: إِنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ هَذَا الْعِقَابَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى الْمَلِكِ لِإِخْرَاجِهِ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَجَاءُوا عَلَيْهِ بِرِوَايَاتٍ لَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا إِلَّا الصَّحِيحُ الْمَرْفُوعُ أَوِ الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ فِي نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَكِنْ قَبِلَهَا عَلَى عِلَّاتِهَا الْجُمْهُورُ كَعَادَتِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوهٍ:

(الْأَوَّلُ) عَطْفُ الْإِنْسَاءِ عَلَى مَا قَالَهُ لِلسَّاقِي بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ عَقِبَهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ كَانَ ذَاكِرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - قَبْلَهُ إِلَى أَنْ قَالَهُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ ذَنْبًا عُوقِبَ عَلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ

يُعْطَفَ عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>