للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالَ أَوْلِيَائِهِ وَصِفَتَهُمْ وَمَا بَشَّرَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَكَوْنَهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِهِ فِيمَا بَشَّرَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لَهَا فِيمَا أَوْعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَنَصْرِ مَنْ آمَنَ لَهُ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَأَنْصَارُ دِينِهِ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَكَانَتِ الْعِزَّةُ أَيِ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ فِي مَكَّةَ لَا تَزَالُ لِلْمُشْرِكِينَ بِكَثْرَتِهِمُ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ، وَكَانُوا لِغُرُورِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِوَعْدِ اللهِ وَكَانَ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّبْعِ كَمَا قَالَ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) (٦: ٣٣) الْآيَةَ. قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لَهُ وَمُؤَكَّدًا وَعْدَهُ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَوَعِيدَهُ لِأَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ.

وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ مِنْ قَوْلِهِمُ الَّذِي يَقُولُونَهُ فِي تَكْذِيبِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَحَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ هَذَا النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أَيْ إِنَّ الْغَلَبَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَنَعَةَ لِلَّهِ جَمِيعَهَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنْهَا، فَهُوَ يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَتْ لِلْكَثْرَةِ دَائِمًا كَمَا يَدَّعُونَ، فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَقَدْ وَعَدَ بِهَا رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَاتَّبَعُوهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٥٨: ٢١) وَ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (٤٠: ٥١) وَ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٦٣: ٨) فَعِزَّتُهُ تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ لَهُ، وَعِزَّةُ رَسُولِهِ

وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَمِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) (٣: ٢٦) وَقَرَأَ نَافِعٌ (يُحْزِنْكَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَحْزَنَهُ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقُرِئَ (أَنَّ الْعِزَّةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنَّ لِحَذْفِ لَامِهَا، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (هُوَ السَّمِيعُ) لِمَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبٍ بِالْحَقِّ وَادِّعَاءٍ لِلشِّرْكِ (الْعَلِيمُ) بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ إِيذَاءٍ وَكَيْدٍ وَمَكْرٍ، فَهُوَ يُذِلُّهُمْ وَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ، وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ آخَرُ فِي تَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسْلِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأْكِيدُ وَعْدِهِ بِالْعِزَّةِ وَوَعِيدَ تَكْذِيبِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْعِزَّةِ لَهُ جَمِيعًا وَالْجَزَاءِ بِيَدِهِ بِقَوْلِهِ مُسْتَأْنِفًا أَيْضًا وَمُفْتَتِحًا بِأَدَاةِ التَّنَبُّهِ:

(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) مِنْ عَابِدٍ وَمَعْبُودٍ فَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَمْلُوكُونَ لَهُ (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ) لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِي النَّوَازِلِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ وَالْوَسَائِلِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ يَنْفَعُونَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ وَشُفَعَاءَ عِنْدَهُ، فَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ وَبِتَمَاثِيلِهِمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، الَّذِينَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>