للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَكُونُ مُنْغَمِسًا فِي الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا ثُمَّ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْمَغْفِرَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يُحِيلَانِ هَذَا الْفَرْضَ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْإِنْسَانِ أَنَّ عَقَائِدَهُ الرَّاسِخَةَ الْيَقِينِيَّةَ لَهَا السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَمَا الْإِيمَانُ إِلَّا الِاعْتِقَادُ الْيَقِينِيُّ الرَّاسِخُ فِي الْعَقْلِ الْمُهَيْمِنُ عَلَى الْقَلْبِ، وَلَا عَمَلَ إِلَّا عَنْ فِكْرٍ مِنَ الْعَقْلِ أَوْ وِجْدَانٍ مِنَ الْقَلْبِ، فَأَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِإِيمَانِهِ، لَا تَسْتَبِدُّ دُونَهُ وَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ جَهَالَةٍ، كَغَلَبَةِ انْفِعَالِهِ يَعْرِضُ وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ وَتُقَفَّى التَّوْبَةُ عَلَى أَثَرِهِ فَتَمْحُوهُ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [٤:١٧] فَهَذَا دَلِيلُ الْعَقْلِ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَالْآيَاتُ الَّتِي يَعْسُرُ إِحْصَاؤُهَا وَمِنْهَا فِي الْمَغْفِرَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [٢٠:٨٢] وَقَوْلُهُ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [٤٠:٧ - ٩] وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَبَيْنَ حِكَايَتِهِ أَنَّ دُعَاءَ الْمُسْتَغْفِرِينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا لَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا بَلْ تُؤَيِّدُهَا ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنَّ كُلَّ مُتَّقٍ يَنْطِقُ بِهِ نُطْقًا بِلِسَانِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِشَأْنِ الْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ مِنْ أَكْمَلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَلَوْ لَمْ يُوصَفُوا بَعْدَ الدُّعَاءِ بِمَا يَأْتِي مِنَ الصِّفَاتِ بِأَنْ قِيلَ: لِلَّذِينَ آمَنُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ. . . إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ فَقَطْ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ لِتَتَّفِقَ الْآيَةُ مَعَ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُوَافِقَةِ لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ

بِطَبِيعَةِ الْبَشَرِ، وَالْإِجْمَاعُ وَالسَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَحُجِبُوا عَنْهُ بِالْتِمَاسِ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مَذَاهِبَهُمْ وَيُفَنِّدُونَ بِهِ مَا خَالَفَهَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مِنْ قَبْلُ، وَلَا نَزَالُ نُبْدِئُ الْقَوْلَ فِيهَا وَنُعِيدُهُ لَعَلَّ التَّكْرَارَ فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يُؤَثِّرُ فِي صَخْرَةِ التَّقْلِيدِ الصَّمَّاءِ فَيُفَتِّتُهَا أَوْ يَنْسِفُهَا نَسْفًا فَيَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى إِيمَانِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَصَفْوَةُ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ كَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَشْرِقِ، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي الْوَسَطِ، وَالْعَلَّامَةِ الشَّاطِبِيِّ صَاحِبِ الْمُوَافَقَاتِ فِي الْمَغْرِبِ - كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَحَسْبُكَ بِالْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا تِلْكَ الدَّرَجَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ وَصْفٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الْوَصْفُ بِالْمَعْنَى (وَالصَّابِرِينَ) مَنْصُوبٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>