للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْوَى الَّتِي تَتْبَعُهُ تُزَكِّي النَّفْسَ وَتُطَهِّرُهَا مِنْ تَأْثِيرِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فَيُمْحَى أَثَرُهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهَا، فَيَسْتَحِقُّونَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، الَّتِي لَا بُؤْسَ فِيهَا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إِقَامَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: الْعَمَلُ بِهِمَا عَلَى أَقْوَمِ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنِهَا؛ سَوَاءٌ فِيهِ عَمَلُ النَّفْسِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِذْعَانُ - وَعَمَلُ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ ; أَيْ لَوْ أَقَامُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلَيْنِ مِنْ قَبْلُ بِنُورِ التَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ، الْمُبَشِّرَيْنِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ أَبْنَاءِ أَخِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ ; كَمَا قَالَ مُوسَى: وَالْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ; كَمَا قَالَ عِيسَى (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) . وَأَقَامُوا، بَعْدَ ذَلِكَ، مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ، وَهُوَ الْفُرْقَانُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، لَوْ أَقَامُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللهِ وَكُتُبِهِ، لَوَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّبَعِ لِذَلِكَ مَا يُهِمُّهُمْ مِنْ مَوَارِدِ الرِّزْقِ ; فَأَكَلُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ الَّتِي تَنْتِجُ مِنْ أَمْطَارِ السَّمَاءِ وَنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَتَمَتَّعُوا بِمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّبِيَّ وَأُمَّتَهُ مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ سَائِرَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَآدَابِهِ وَالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ الْأَخِيرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَزَبُورِ دَاوُدَ، وَحِكَمِ سُلَيْمَانَ، وَكُتُبِ دَانْيَالَ وَأَشْعَيَا وَغَيْرِهِمَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِي مُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ بَيَانٌ لِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ، وَإِقَامَةُ هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، فَلَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مَا عَزَاهُ الْمُؤَرِّخُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْفَسَادِ، وَلَمَا عَانَدُوا النَّبِيَّ - الْمُبَشِّرَةُ بِهِ - ذَلِكَ الْعِنَادَ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوهَا، وَلَا تَدَبَّرُوهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا، وَبِدَعًا وَتَقَالِيدَ يَتَوَارَثُونَهَا ; فَهُمْ بَيْنَ غُلُوٍّ وَتَقْصِيرٍ، وَإِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ دَهْمَاءَهُمْ وَسَوَادَهُمُ الْأَعْظَمَ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَوَارِيخِهِمْ

وَتَوَارِيخِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ وَعَدْلِهِ تَمْحِيصُ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) أَيْ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مُعْتَدِلَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ. لَا تَغْلُو بِالْإِفْرَاطِ، وَلَا تُهْمِلُ بِالتَّقْصِيرِ. قِيلَ: هُمُ الْعُدُولُ فِي دِينِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ، وَالْمُعْتَدِلُونَ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ أُمَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي طَوْرِ صَلَاحِ الْأُمَّةِ وَارْتِقَائِهَا، وَيَقِلُّونَ فِي طَوْرِ فَسَادِهَا وَانْحِطَاطِهَا - وَهَلْ تَهْلَكُ الْأُمَمُ إِلَّا بِكَثْرَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ مِنَ الْأَشْرَارِ، وَقِلَّةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ مَنَّ الْأَخْيَارِ - وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِلُونَ فِي الْأُمَمِ هُمُ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى كُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ يَقُومُ بِهِ الْمُجَدِّدُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَمِنَ الْحُكَمَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَلَمَّا جَاءَ الْإِصْلَاحُ الْإِسْلَامِيُّ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهُ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانُوا مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْعَرَبِ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>