للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَرْسَلَنِي بِهِ، وَكُلُّ رَسُولٍ بَعْدَهُ أُمِرَ أَنْ يُبَلِّغَ قَوْمَهُ هَذَا، كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَحْكِيًّا عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَتَكَرَّرَ مِثْلُهُ بِأَمْرِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (٤٢: ٢٣) فَهُوَ - أَيِ الِاسْتِثْنَاءُ - مُنْفَصِلٌ مَعْنَاهُ، لَكِنْ أَسْأَلُكُمْ مَوَدَّةَ أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ الَّتِي تُبَالِغُونَ فِيهَا وَتُقَاتِلُونَ لِأَجْلِهَا. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَفْعٌ لِشُبْهَةٍ أُخْرَى عَلَى نُبُوَّةِ نُوحٍ كَغَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَاكَتْ فِي صُدُورِ قَوْمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ تَكَلَّمَ بِهَا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا بِالَّذِي يَقَعُ مِنِّي طَرْدُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قُرْبِي وَجِوَارِي لِاحْتِقَارِكُمْ لَهُمْ، وَوَصْفِكُمْ إِيَّاهُمْ بِالْأَرَاذِلِ جَهْلًا مِنْكُمْ، فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ فِي كَلَامِهِمْ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ، وَقَدْ يَكُونُونَ صَرَّحُوا بِذِكْرِ هَذَا اللَّازِمِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْكُفَّارِ مِنْ جَمِيعِ أَقْوَامِ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَهَا هُنَا وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِهِمْ، وَتَكَرَّرَ مَعْنَاهَا فِي قَوْمِ خَاتَمِهِمْ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ الطَّرْدِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (٦: ٥٢) الْآيَةَ.

وَفِي مَعْنَاهَا قِصَّةُ الْأَعْمَى فِي سُورَتِهِ (إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) هَذَا تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِنَفْيِ الطَّرْدِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ يَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، إِنْ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ وَبِهِمْ (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أَيْ تُسَفِّهُونَ عَلَيْهِمْ، مِنَ الْجَهَالَةِ الْمُضَادَّةِ لِلْعَقْلِ وَالْحِلْمِ، أَوْ تَجْهَلُونَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ، وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَتَظُنُّونَ أَنَّ الِامْتِيَازَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَالِ الْمُطْغِي، وَالْجَاهِ بِالْبَاطِلِ الْمُرْدِي، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٦: ١١١ - ١١٥) وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللهِ تَتِمَّةُ الْآيَةِ (٦: ٥٢) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) كَرَّرَ هَذَا النِّدَاءَ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ آنِفًا، وَالِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ بِأَنْ يَمْنَعَ عَنِّي مَا أَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِقَابِهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِي وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّايَ فِيمَا بَلَّغْتُهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي الْعِقَابَ الشَّدِيدَ بِعَدْلِ اللهِ - تَعَالَى - مَهْمَا تَكُنْ صِفَةُ مَنِ اقْتَرَفَهُ، كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٦: ٥٢) (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّائَيْنِ مِنْهُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَيُقَدَّرُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلٌ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ: أَتُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِكُمْ، أَوْ أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْرُدَهُمْ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ؟ .

<<  <  ج: ص:  >  >>