الْجَمَاعَةِ أَوِ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ عِقَابُهُ قَاصِرًا عَلَى مَنِ اقْتَرَفَهُ بَلْ يَكُونُ عَامًّا، وَبِمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ،
وَهَذَا الرَّأْيُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ.
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ حِينَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا. وَالْهَمُّ: حَدِيثُ النَّفْسِ وَتَوَجُّهُهَا إِلَى الشَّيْءِ، وَالْفَشَلُ ضَعْفٌ مَعَ جُبْنٍ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِـ تُبَوِّئُ أَيْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّخِذُ الْمُعَسْكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُنْزِلُ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَنْزِلًا فِي وَقْتٍ هَمَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ بِالْفَشَلِ افْتِتَانًا بِكَيْدِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِنَ الْعَسْكَرِ. وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِصَّةِ - وَاللهُ وَلِيُهُمَّا أَيْ مُتَوَلِّي أُمُورِهِمَا لِصِدْقِ إِيمَانِهِمَا، لِذَلِكَ صَرَفَ الْفَشَلَ عَنْهُمَا وَثَبَّتَهُمَا فَلَمْ يُجِيبَا دَاعِيَ الضَّعْفِ الَّذِي أَلَمَّ بِهِمَا عِنْدَ رُجُوعِ نَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ بَلْ تَذَكَّرُوا وِلَايَةَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَوَثِقَا بِهِ وَتَوَكَّلَا عَلَيْهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْثَالُهُمْ، لَا عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَلَا عَلَى أَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، وَإِنَّمَا يَبْذُلُونَ حَوْلَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أُهْبَتَهُمْ وَعُدَّتَهُمْ إِقَامَةً لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ إِذْ جَعَلَ الْأَسْبَابَ مُفْضِيَةً إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ، وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُسَخِّرُ لِلسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَالْمُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا، فَيَنْصُرُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْكَثِيرَةِ إِنْ شَاءَ كَمَا نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَهُوَ مَاءٌ أَوْ بِئْرٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَانَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ بَدْرٌ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَقَدْ كَانَتْ فِيهِ أَوَّلُ غَزْوَةٍ قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ الْمُشْرِكِينَ فِي ١٧ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أَيْ نَصَرَكُمْ فِي حَالَةِ ذِلَّةٍ كُنْتُمْ فِيهَا عَلَى قِلَّتِكُمْ - كَمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ أَذِلَّةٍ، إِذْ هُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ - وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَذِلَّةً أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ إِذْ كَانُوا قَلِيلِي الْعُدَّةِ مِنَ السِّلَاحِ وَالظَّهْرِ (أي مَا يُرْكَبُ) وَالزَّادِ. وَلَا غَضَاضَةَ فِي الذُّلِّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَنْ قَهْرٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَالظَّالِمِينَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ بِمَقْهُورِينَ وَلَا مُسْتَذَلِّينَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَإِنَّمَا كَانَتْ قُوَّتُهُمْ فِي أَوَائِلِ تَكَوُّنِهَا فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَإِنَّ التَّقْوَى هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلْقِيَامِ فِي مَقَامِ
الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي يُسْدِيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بِالتَّقْوَى غَلَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فَلَا يُرْجَى لَهُ أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا يَصْرِفُ النِّعْمَةَ إِلَى مَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا هَذَا السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا مُتَعَلِّقٌ بِـ (تُبَوِّئُ) أَوْ بِـ (سَمِيعٌ) أَوْ بَدَلٌ مِنْ (إِذْ) الْأُولَى وَالتَّقْدِيرُ: تُبَوِّئُهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هَمَّ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِالْفَشَلِ مَعَ أَنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ - عَلَى قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ تَقُولُ فِيهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute