للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَقُولُ: بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - خَلْقَ عِيسَى وَمَجِيئَهُ بِالْآيَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَشَفَ شُبْهَةَ الْمَفْتُونِينَ بِخَلْقِهِ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الْمُعْتَادَةِ وَالْمُحَاجِّينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَرَدَّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ أَيْ إِنَّ شَبَهَ عِيسَى وَصِفَتَهُ فِي خَلْقِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ كَشَأْنِ آدَمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ أَيْ قَدَّرَ أَوْضَاعَهُ وَكَوَّنَ جِسْمَهُ مِنْ تُرَابٍ مَيِّتٍ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَكَانَ طِينًا لَازِبًا ذَا لُزُوجَةٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ ثُمَّ كَوَّنَهُ تَكْوِينًا آخَرَ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعِبَارَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ هُنَا: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ) . وَلَكِنَّهُ قَالَ: فَيَكُونُ لِتَصْوِيرِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَعَانِي فِي وَضْعِ الْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي أَحْيَانًا. وَخَطَرَ لِيَ الْآنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ مَجْمُوعَ كُنْ فَيَكُونُ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ قَالَ لَهُ كَلِمَةَ التَّكْوِينِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ بِهَا حَالًا، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [٦: ٧٣] وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ لِلتَّكْلِيفِ لَمْ يَظْهَرْ هَذَا ; لِأَنَّ قَوْلَ التَّكْلِيفِ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَقَوْلَ التَّكْوِينِ مِنْ صِفَةِ الْمَشِيئَةِ، وَلَعَلَّ مَنْ تَأَمَّلَهُ حَقَّ

التَّأَمُّلِ لَا يَجِدُ عَنْهُ مُنْصَرَفًا. وَالْعَطْفُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ التَّكْوِينِ الْآخَرِ يُفِيدُ تَرَاخِيهِ وَتَأَخُّرَهُ عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ تَقَلَّبَ فِي أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا تَتَقَلَّبُ ذُرِّيَّتُهُ؟ اقْرَأْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [٧١: ١٤] وَقَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [٢٣: ١٢ - ١٦] فَالسُّلَالَةُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الطِّينِ: هِيَ الْمُكَوِّنُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ الْآنَ بِـ " الْبُرُوتُوبْلَازْمَا "، وَمِنْهَا تَكَوَّنَ أَصْلُنَا فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ السُّلَالَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ التَّوَلُّدِ بِوَاسِطَةِ النُّطْفَةِ فِي الْقَرَارِ الْمَكِينِ وَهُوَ الرَّحِمُ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ تَحَوُّلِ النُّطْفَةِ إِلَى عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةِ إِلَى مُضْغَةٍ وَالْمُضْغَةِ إِلَى هَيْكَلٍ مِنَ الْعِظَامِ يُكْسَى لَحْمًا، وَقَدْ عَدَّ هَذَا طَوْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَنْشَأَهُ خَلْقًا آخَرَ وَهُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ طَوْرًا آخَرَ فِي الْمَوْتِ وَطَوْرًا آخَرَ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ آخِرُ أَطْوَارِهِ، فَكُلُّ طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ حَادِثٌ، وَحُدُوثُهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِنَظِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَكْوِينِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ فَهَلْ يَعِزُّ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنْ يَخْلُقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ كَلَّا، وَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَ النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى

<<  <  ج: ص:  >  >>