هِرَقْلُ صَاحِبُ الرُّومِ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ مِنْ شُئُونِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ: " هَلْ يَرْجِعُ عَنْهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا " وَقَدْ أَرَادَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنْ تَغُشَّ النَّاسَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ لِيَقُولُوا: لَوْلَا أَنْ ظَهَرَ لِهَؤُلَاءِ بُطْلَانُ الْإِسْلَامِ لَمَا رَجَعُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا فِيهِ، وَاطَّلَعُوا عَلَى بَاطِنِهِ وَخَوَافِيهِ ; إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَيَرْغَبَ عَنْهُ بَعْدَ الرَّغْبَةِ فِيهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ رَغْبَةً لَا حِيلَةً وَمَكِيدَةً كَمَا كَادَ هَؤُلَاءِ. فَمَاذَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ رَغْبَةً فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ وَخَابَ ظَنُّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِلَّا لِتَخْوِيفِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْمَكَايِدَ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالتَّشْكِيكِ فِيهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَكَايِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي نُفُوسِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَصَلُوا فِيهِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَخْدَعُ الضُّعَفَاءَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْوَثَنِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ، كَالَّذِينِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ; وَبِهَذَا يَتَّفِقُ الْحَدِيثُ الْآمِرُ بِذَلِكَ مَعَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْمُنْكِرَةِ لَهُ - فِيمَا أَرَى - وَقَدْ أَفْتَيْتُ بِذَلِكَ كَمَا يَظْهَرُ لِي وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْكَائِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَآمَنَ لَهُ: صَدَّقَهُ وَسَلَّمَ لَهُ مَا يَقُولُ. قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [٢٩: ٢٦] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [١٢: ١٧] .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ بِالتَّصْدِيقِ الثِّقَةَ وَالرُّكُونَ، كَقَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [٩: ٦١] أَيْ فَيَكُونُ تَصْدِيقًا خَاصًّا تَضَمَّنَ مَعْنًى زَائِدًا.
وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ حَصَرُوا الثِّقَةَ بِأَنْفُسِهِمْ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِمْ، بَلْ غَلَوْا فِي التَّعَصُّبِ وَالْغُرُورِ حَتَّى حَقَّرُوا جَمِيعَ النَّاسِ فَجَعَلُوا كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَسَنًا وَمَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِمْ قَبِيحًا، وَهَذَا مِنَ الِانْتِكَاسِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ، وَإِنَّنَا نَرَى مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ مَنْ يُحَاوِلُ تَغْرِيرَ قَوْمِهِ بِحَمْلِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ يُحَقِّرُونَ كُلَّ مَا لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ،
وَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ هَؤُلَاءِ بِمَا رَدَّ اللهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ لَا هُدَى شَعْبٍ مُعَيَّنٍ هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يُبَيِّنُ هُدَاهُ عَلَى لِسَانِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لَا تَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهُ بِأَحَدٍ وَلَا بِشَعْبٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وَقَدْ قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ " أَآنَ " بِهَمْزَتَيْنِ مَعَ تَلْيِينِ الثَّانِيَةِ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا حَكَاهُ - تَعَالَى - مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute