للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا مَا أَحْبَبْتُ التَّذْكِيرَ بِهِ فِي تَبْيِينِ الْعِبْرَةِ بِالْآيَةِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَعَمَلِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِنْ سَاءَتْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِالشِّعْرِيَّاتِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي رَاجَتْ سُوقُهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالصُّحُفِ الْمُنْتَشِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَرَائِدِ، فَالْكَثِيرُ مِنْهَا قَدْ أَتْقَنَ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ - مَدْحَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا - حَتَّى اطْمَأَنُّوا بِاعْتِقَادِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ أَنَّ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٌ، وَحَتَّى بَطَلَتْ فَائِدَةُ الْمَحْمَدَةِ الصَّحِيحَةِ وَحُبُّ الثَّنَاءِ بِالْحَقِّ، وَالشُّكْرِ عَلَى الْعَمَلِ فَانْهَدَّ بِذَهَابِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّرْبِيَةِ، وَالْإِصْلَاحِ الْقَوْمِيِّ، وَالشَّخْصِيِّ، فَإِنَّ حُبَّ الْحَمْدِ غَرِيزَةٌ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الَّتِي تَنْهَضُ بِالْهِمَمِ، وَتُحَفِّزُ الْعَزَائِمَ إِلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ النَّافِعَةِ رَغْبَةً فِي اقْتِطَافِ ثِمَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُدْرِكُ هَذَا الثَّنَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُونَ بِدُونِ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ عَنَاءَ الْعَمَلِ لِلْأُمَّةِ، وَنَفْعَ النَّاسِ بِكَذِبِ الْجَرَائِدِ فِي حَمْدِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ قَعَدَتْ هِمَّتُهُ وَوَهَتْ عَزِيمَتُهُ، وَأَخْلَدَ إِلَى الرَّاحَةِ، أَوِ اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ لِلَذَّتِهِ فَقَطْ.

فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَيَنَالُ الْحُظْوَةَ عِنْدَهُمْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ، وَلَا بِدِينِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ - فَأَصْحَابُ الْجَرَائِدِ أَوْلَى بِعَدَمِ الثِّقَةِ بِأَخْبَارِهِمْ، وَآرَائِهِمْ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ. وَأَنَّى لِلْعَوَامِّ الْمَسَاكِينِ فَهْمُ هَذَا وَإِدْرَاكُ سِرِّهِ وَالْجَهْلُ غَالِبٌ، وَالْغِشُّ رَائِجٌ، وَالنَّاصِحُ الْمُخْلِصُ نَادِرٌ؟ وَقَدْ صَارَتْ حَاجَةُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَى حَمْدِ الْجَرَائِدِ تُوَازِي حَاجَتَهُمْ إِلَى حَمْدِ رِجَالِ الدِّينِ فِي غِشِّ الْأُمَّةِ، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ يُغْدِقُونَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، وَيُقَرِّبُونَهُمْ، وَيُحَلُّونَهُمْ بِالرُّتَبِ، وَشَارَاتِ الشَّرَفِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَوْسِمَةِ، أَوِ النَّيَاشِينِ، كَمَا يَحْرِصُ عَلَى إِرْضَائِهِمْ كُلُّ مُحِبِّي الشُّهْرَةِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَالْوُجَهَاءِ.

لَوْلَا أَنَّ حُبَّ الْمَحْمَدَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ مِنْ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّرْبِيَةِ الْعَالِيَةِ لَمَا قَيَّدَ اللهُ الْوَعِيدَ عَلَى حُبِّ الْحَمْدِ بِقَوْلِهِ: بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَهَذَا الْقَيْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَا مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بَلْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [٩٤: ٤] وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ

لَكَ وَلِقَوْمِكَ [٤٣: ٤٤] نَعَمْ، إِنَّ هُنَاكَ مَرْتَبَةً أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ مَنْ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ لِيُحْمَدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَرْتَبَةُ مَنْ يَعْمَلُهَا حَبًّا بِالْخَيْرِ لِذَاتِهِ، وَتَقْرُّبًا بِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -.

عَلَى أَنَّ الْمَدْحَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ ضَرَرٍ فِي الْمَمْدُوحِ كَالْغُرُورِ وَالْعُجْبِ، وَفُتُورِ الْهِمَّةِ عَنِ الثَّبَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي حُمِدَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>