للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْآخِرَةِ، وَظَنَّهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَخْ. هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى مُعْتَرَكِهِمْ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، لِعَدَمِ تَطْبِيقِ مِثْلِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَاطِّرَادِ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ.

وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلُوهَا، قَالَ: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ يَدْخُلُونَهَا وَيَذُوقُونَ عَذَابَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ أَبَدًا يَنْفِي أَنْ يُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ الْخُلُودُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، أَمَّا مَعْنَى الْخُلُودِ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ: بَقَاءُ الشَّيْءِ مُدَّةً طَوِيلَةً عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا تَغَيُّرٌ وَلَا فَسَادٌ، كَقَوْلِهِمْ لِلْأَثَافِيِّ (حِجَارَةِ الْمَوْقِدِ) خَوَالِدُ، قَالَ: (وَذَلِكَ لِطُولِ مُكْثِهَا، لَا لِدَوَامِ بَقَائِهَا) وَفَسَّرَ الْخُلْدَ فِي " اللِّسَانِ " بِدَوَامِ

الْبَقَاءِ فِي دَارٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّكْنَى الدَّائِمَةِ فِي الْعُرْفِ: مَا يُقَابِلُ السُّكْنَى الْمُؤَقَّتَةَ الْمُتَحَوِّلَةَ كَسُكْنَى الْبَادِيَةِ، فَالَّذِينَ لَهُمْ بُيُوتٌ فِي الْمُدُنِ يَسْكُنُونَهَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: إِنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَخَلَدَ بِالْمَكَانِ يَخْلُدُ خُلُودًا، مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَأَخْلَدَ: أَقَامَ، وَخَلَدَ - كَضَرَبَ وَنَصَرَ - خُلْدًا وَخُلُودًا: أَبْطَأَ عَنْهُ الشَّيْبُ. وَمَنْ كَبِرَ وَلَمْ يَشِبْ أَوْ لَمْ تَسْقُطْ أَسْنَانُهُ يُقَالُ لَهُ الْمُخَلَّدُ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:

لِمَنِ الدِّيَارُ غَشَيْتُهَا بِالْغَرْقَدِ ... كَالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمُخَلَّدِ

وَالْأَبَدُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: " عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةِ الزَّمَانِ الْمُمْتَدِّ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ كَمَا يَتَجَزَّأُ الزَّمَانُ، وَتَأَبَّدَ الشَّيْءُ: بَقِيَ أَبَدًا، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَمَّا يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً " وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: " الْأَبَدُ: الدَّهْرُ. وَفِيهِ تَسَاهُلٌ، وَقَالُوا فِي الْمَثَلِ: " طَالَ الْأَبَدُ عَلَى لُبَدٍ " يُضْرَبُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَا قَدُمَ، وَقَالُوا: أَبَدَ بِالْمَكَانِ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - أُبُودًا: أَقَامَ بِهِ وَلَمْ يَبْرَحْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ بِمَعْنَى اللَّانِهَايَةِ يَدُورُ فِي كَلَامِهِمْ.

وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ سَهْلًا عَلَى اللهِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَلَا يَسْتَعْصَى عَلَى قُدْرَتِهِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ وَلَا مَفَرَّ، وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقِرٌّ.

يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ نَادَى اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ النَّاسِ فِي سِيَاقِ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ، فَبِالْأَوْلَى تَقُومُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ كَكِتَابِهِمْ، وَذَكَرَ الرَّسُولَ هَهُنَا مُعَرَّفًا ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بُشِّرُوا بِهِ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِعْثَتَهُ، بِعُنْوَانِ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْكَامِلُ، الَّذِي هُوَ الْمُتَمِّمُ الْخَاتَمُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>