للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا التَّذَكُّرُ فَمَعْنَاهُ تَكَلُّفُ ذِكْرِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ، أَوِ التَّدَرُّجِ فِيهِ بِفِعْلِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاتِّعَاظِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (٤٠: ١٣) وَقَوْلُهُ: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (٨٧: ١٠) وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ كَثِيرَةٌ، وَمِثْلُهُ الِادِّكَارُ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَالِافْتِعَالُ يَقْرُبُ مِنَ التَّفَعُّلِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِفَادَةُ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلَّانِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ.

وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الْمَتْلُوُّ عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي - الْبَعِيدَةِ مَدَى الْفَائِدَةِ وَمَسَافَةِ الْمَنْفَعَةِ لِمَنْ قَامَ بِهَا - وَصَّاكُمُ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ رَجَاءَ أَنْ تَذْكُرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ لَكُمْ، فَيَحْمِلَكُمْ ذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، أَوْ رَجَاءَ أَنْ يُذَكِّرَهُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّوَاصِي الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (١٠٣: ٣) وَلِكُلٍّ مِنَ الذِّكْرِ النَّفْسِيِّ وَاللِّسَانِيِّ وَجْهٌ هُنَا، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ جَرِيرٍ الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا - وَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَعَانِي التَّذَكُّرِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَصَّاكُمْ بِهِ رَجَاءَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذِكْرَ هَذِهِ الْوَصَايَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ مَنْ كَانَ كَثِيرَ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ أَوْ كَثِيرَ الشَّوَاغِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ - أَوْ رَجَاءَ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مَنْ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِتِلَاوَةِ آيَاتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَبِغَيْرِ ذَلِكَ - أَوْ رَجَاءَ أَنْ يَتَّعِظَ بِهَا مَنْ سَمِعَهَا وَقَرَأَهَا أَوْ ذَكَرَهَا أَوْ ذُكِّرَ بِهَا، وَبَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَامٌّ يُطْلَبُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَبَعْضُهَا خَاصٌّ.

(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ وَالْعَاشِرُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ، هُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالشَّرْعِ الْحَنِيفِيِّ الْعَذْبِ الْمَوْرِدِ السَّائِغِ الْمَشْرَبِ بِمَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَصَايَا الَّتِي لَا يُكَابِرُ ذُو مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ فِي حُسْنِهَا وَفَضْلِهَا - أَوْ - أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَدْعُوكُمْ بِهِ إِلَى مَا يُحْيِيكُمْ: هُوَ صِرَاطِي وَمِنْهَاجِي الَّذِي أَسْلُكُهُ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَنَيْلِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أُشِيرُ إِلَيْهِ مُسْتَقِيمًا ظَاهِرَ الِاسْتِقَامَةِ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، وَلَا يَهْتَدِي تَارِكُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الْأُخْرَى الَّتِي تُخَالِفُهُ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَتَتَفَرَّقُ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ كُلٌّ مِنْكُمْ فِي سَبِيلِ ضَلَالَةٍ مِنْهَا يَنْتَهِي بِهَا إِلَى الْهَلَكَةِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَلَيْسَ أَمَامَ تَارِكِ النُّورِ إِلَّا الظُّلُمَاتُ. وَقَدْ أُضِيفَ الصِّرَاطُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى اللهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ. وَإِلَى الدُّعَاةِ إِلَيْهِ وَالسَّالِكِينَ لَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِضَافَتَهُ هُنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخَاطِبُ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَفِعْلُهَا مُسْنَدٌ إِلَيْهِ تَعَالَى بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>