الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَةِ عِبَارَتِهِ وَلَفْظِهِ، وَلَا يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ عِبْرَتِهِ وَوَعْظِهِ، وَلَقَدْ قَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي فِي أَهْلِ عَصْرِهِ:
وَالْأَرْضُ لِلطُّوفَانِ مُشْتَاقَةٌ ... لَعَلَّهَا مِنْ دَرَنٍ تُغْسَلُ
وَنَحْنُ نَقُولُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا الْعَلَاءِ فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟ كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَقَدْ أَنْشَدَتْ قَوْلَ لَبِيدٍ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ
قَالَتْ: رَحِمَ اللهُ لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟
رُوِّينَاهُ مُسَلْسَلًا إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِنَا أَبِي الْمَحَاسِنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوَقْجِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - وَسَنَعْقِدُ فَصْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى عِقَابِ اللهِ لِلظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ فِي عَصْرِنَا بِمَا نُورِدُهُ مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مِنْ صُلْبِ الْقِصَّةِ وَأُصُولِ وَقَائِعِهَا وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ بَابَيْنِ اثْنَيْنِ لَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ،
أَحَدُهُمَا: بَابُ الْإِلَهِيَّاتِ بِمَا فِيهَا مِنْ حُكْمِ اللهِ وَعَدْلِهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ بِلَا مُحَابَاةٍ لِوَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَثَانِيهِمَا: اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازُ الْخَطَأِ فِيهِ وَعَدُّهُ ذَنْبًا عَلَيْهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَقَامِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، - وَهِيَ مَا عَرَضَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ ابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ كَمَا مَرَّ فِي الْآيَةِ (٤٣) وَكَانَ ظَاهِرُ التَّرْتِيبِ أَنْ تُجْعَلَ بَعْدَهَا فَتَكُونَ (٤٤) وَوَجْهُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَهُمَا الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ الْعُلْيَا، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْمُثْلَى، هُوَ أَنْ قُدِّمَتِ الْآيَةُ الْمُتَمِّمَةُ لِأَصْلِ الْقِصَّةِ الْمُبَيِّنَةُ لِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهَا بِأَرْوَعِ التَّعْبِيرِ، الَّذِي يَقْرَعُ أَبْوَابَ الْقُلُوبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute