للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ: قَدْ كَانَ مِنْ سَبْقِ رَحْمَتِي غَضَبِي أَنْ أَجْعَلَ عَذَابِي خَاصًّا أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَهِيَ مِنْ صِفَاتِي الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا أَمْرُ الْعَالَمِ مُنْذُ خَلَقْتُهُ، وَالْعَذَابُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِي بَلْ مِنْ أَفْعَالِي الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى صِفَةِ الْعَدْلِ؛ وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنِ التَّعْذِيبِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَعَنْ تَعَلُّقِ الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْعَامَّةُ الْمَبْذُولَةُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلَوْلَاهَا لَهَلَكَ كُلُّ كَافِرٍ وَعَاصٍ عَقِبَ كُفْرِهِ وَفُجُورِهِ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ (٣٥: ٤٥) وَهُنَالِكَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ يُوجِبُهَا وَيَكْتُبُهَا تَعَالَى لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ، وَيَبْذُلُ مَا شَاءَ مِنْهَا لِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ كِتَابَةٍ مِنْهُ، وَمَا كِتَابَتُهُ إِلَّا فَضْلٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ، وَأَمَّا الْعَذَابُ فَلَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي خَبَرِ الْمَعْصُومِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنْ أَثْبَتَهُ، وَتَوَعَّدَ بِهِ فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَتَيِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَقَدْ أَفْرَطَ فِي النَّظَرِ إِلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ، وَغَفَلُوا عَنِ النَّظَرِ فِي مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ تَعْذِيبِ أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَآخَرُونَ إِلَى عَدَمِ تَعْذِيبِ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضُ غُلَاةِ التَّصَوُّفِ؛ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْعَذَابَ صُورِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُذُوبَةِ، وَإِنَّ فِي جَهَنَّمَ مَنْ هُمْ أَحَبُّ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ - جَعَلَهُمُ اللهُ مِنْهُمْ -. وَأَفْرَطَ آخَرُونَ فِي النَّظَرِ إِلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ تَعَالَى تَعْذِيبَ الْعُصَاةِ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ لَا الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَلَوْلَا أَنْ صَارَ هَذَا وَذَاكَ مَذْهَبًا لَسَهُلَ جَمْعُ كَلِمَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْأَخْذِ

بِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّحْمَنِ، وَلَمَا قَالَ مِثْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنْ جَهَابِذَةِ الْبَيَانِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ أَيْ: مَنْ وَجَبَ عَلَيَّ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ مَسَاغٌ؛ لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ انْتَهَى. فَقَدْ فَسَّرَ مَنْ يَشَاءُ تَعَالَى تَعْذِيبَهُ بِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْذِيبُهُ، وَجَمَاعَتُهُ يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا وُجُوبٌ عَقْلِيٌّ لَا يَدْخُلُ الْإِمْكَانُ سِوَاهُ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَافِي الْمَشِيئَةَ مُنَافَاةً قَطْعِيَّةً فَكَيْفَ تُفَسَّرُ بِهِ؟ ! ‍ يَا لَيْتَ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَنْتَحِلْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي خِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَإِذًا لَكَانَ كَشَّافُهُ حُجَّةً عَلَى أَصْحَابِهَا وَمَرْجِعًا لَهُمْ فِي تَحْرِيرِ مَعَانِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ؛ إِذْ كَانَ مِنْ أَدَقِّ عُلَمَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ فَهْمًا وَأَحْسَنِهِمْ بَيَانًا وَلَمَا فَهِمَ، وَمَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - نَظَرِيَّةٌ فِكْرِيَّةٌ لَا لُغَوِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ لِذَاتِهِ، وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهُ تَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ، بِمَعْنَى كِتَابَتِهِ وَجَعْلِهِ أَمْرًا مَقْضِيًّا، وَلَيْسَ فِي إِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ مَا فِي إِيجَابِ عُقُولِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى اسْتِعْلَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى - أَوْ مِنْ إِيهَامِ كَوْنِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَحْكُومًا

<<  <  ج: ص:  >  >>