النَّبِيِّينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ التَّعْبِيرُ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ إِيتَاءِ دَاوُدَ الزَّبُورَ. وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى الْوَحْيُ إِلَيْهِمْ تَكْلِيمًا، وَالتَّكْلِيمُ لَهُمْ وَحْيًا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ (٤٢: ٥١) وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى كَانَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَدْ سَمَّاهُ وَحْيًا فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (٢٠: ١٣) إِلَخْ. أَمَّا حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَالتَّكْلِيمِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَخُوضَ فِيهِ ; لِأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ كَلَامِ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ بِوَاسِطَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَجْعَلُ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنَ الْهَوَاءِ مُتَكَيِّفَةً بِهِ، وَهِيَ أَعَمُّ الْوَسَائِطِ وَأَظْهَرُهَا، وَأَمَّا الْحِجَابُ فَحِكْمَتُهُ: حَصْرُ الْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ تَتَّحِدُ فِيهِ هُمُومُهَا وَأَهْوَاؤُهَا الْمُتَفَرِّقَةُ، كَمَا كَانَ شَأْنُ مُوسَى إِذْ رَأَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ. وَأَمَّا الرَّسُولُ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللهُ فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَهُوَ مَلَكُ الْوَحْيِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّوحِ الْأَمِينِ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ عَلَى كَوْنِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى لَمْ يَكُنْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ هُنَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ (٢: ٢٥٣) وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَلِمَةَ (تَكْلِيمًا) الْمُؤَكِّدَةَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ مَجَازِيًّا، فَإِنَّ الْفَرَّاءَ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا وَصَلَ إِلَى الْإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ مَا لَمْ يُؤَكَّدْ بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا أُكِّدَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ نَفْسُهُ مَجَازِيًّا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمَجَازَ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْإِسْنَادِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْنِدَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ بِمِثْلِهِ إِلَى الْمُبَلِّغِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا يُبَلِّغُ عَنِ الْمَلِكِ حَاجِبُهُ أَوْ وَزِيرُهُ، وَعَنِ الْمَرْأَةِ الْمُحَجَّبَةِ زَوْجُهَا أَوْ وَلَدُهَا، أَقُولُ: وَمِنْهُ إِسْنَادُ الْكَلَامِ إِلَى التُّرْجُمَانِ ;
إِذِ الْمَقْصِدُ مِنَ التَّكْلِيمِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَلَوْ بِوَاسِطَةِ التُّرْجُمَانِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَقْصِدُ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِسَالَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا. وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْهُمْ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ; كَقَوْلِ هِنْدِ بِنْتِ النُّعْمَانِ فِي زَوْجِهَا رُوحِ بْنِ زِنْبَاعَ وَزِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
بَكَى الْخَزُّ مِنْ رُوحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامِ الْمَطَارِفُ
فَأَكَّدَتْ " عَجَّتْ " مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ ; لِأَنَّ الْمَطَارِفَ جَمْعُ مِطْرَفٍ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَهُوَ رِدَاءٌ لَهُ خَزٌّ لَهُ أَعْلَامٌ لَا تَعِجُّ (وَالْعَجِيجُ: الصِّيَاحُ) .
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ أَرْسَلْنَا أُولَئِكَ الرُّسُلَ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَفَرَ وَأَجْرَمَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ بِأَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا وَأَجْرَمُوا إِلَّا لِجَهْلِهِمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ، تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (٢٠: ١٣٤)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute