أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِلَفْظِ: " أَسْتَغْفِرُ اللهَ " لَا يُعَدُّ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ الْحَقِيقِيَّ يَنْشَأُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْعُرَ الْقَلْبُ أَوَّلًا بِأَلَمِ الْمَعْصِيَةِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهَا، وَبِالْحَاجَةِ إِلَى التَّزَكِّي مِنْ دَنَسِهَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مِنَ التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ إِلَى اللهِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعَزْمِ الْقَوِيِّ عَلَى اجْتِنَابِ سَبَبِ هَذَا الدَّنَسِ، وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَأَلِّمًا مِنَ الْقَذَرِ الْحِسِّيِّ مَنْ أَلِفَهُ وَعَرَّضَ بَدَنَهُ لَهُ إِذَا طَلَبَ غَسْلَهُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُ الِالْتِيَاثَ بِهِ وَلَا يَدْنُو مِنَ الْمَاءِ؟
وَقَالَ فِي اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مُشَارَكَةَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الدُّعَاءِ مَسْنُونَةٌ، وَأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرَعِ مِمَّا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْوَاحِدِ، فَدُعَاءُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ إِنْ كَانَ كُلُّ دَاعٍ مَوْعُودًا بِالِاسْتِجَابَةِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ: إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى، وَالْإِجَابَةُ الَّتِي وَعَدَ بِهَا: هِيَ الْإِثَابَةُ وَحُسْنُ الْجَزَاءِ، فَمَتَى أَخْلَصَ الدَّاعِي أَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي الدَّاءِ أَرْجَى لِلْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِينَ الْكَثِيرِينَ لِشَخْصٍ يُؤَدُّونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ بِسَبَبِهِ، أَيْ أَنَّ ذَنْبَهُ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ فِي شُعُورِهِمْ وَإِحْسَاسِهِمْ كُلِّهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالِاتِّحَادِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّ حَاجَتَهُ حَاجَتُهُمْ كُلِّهِمْ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الدَّاعِيَ وَالْمُسْتَغْفِرَ
لِأُولَئِكَ التَّائِبِينَ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ اسْتِغْفَارِهِمْ هُمْ، فَذَلِكَ مِنَ اشْتِرَاكِ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ مَعَ قُلُوبِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَطْهِيرِ اللهِ لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الذَّنْبِ وَطَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَنَاهِيكَ بِقُرْبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ رَبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ رِضًا كَامِلًا، بِحَيْثُ يَشْعُرُ قَلْبُهُ الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِحَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَغْفِرَةِ لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، فَذَنْبُهُمْ ذَلِكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِضَمِّ اسْتِغْفَارِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ ذَنْبٍ كَذَلِكَ، بَلْ يُكْتَفَى فِي سَائِرِ الذُّنُوبِ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ حَيْثُ كَانَ، وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الذَّنْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ بُعْدُ مَنْ قَاسَ كُلَّ ذَنْبٍ عَلَى ذَنْبِ الرَّغْبَةِ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِيثَارِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَاسَ كُلَّ مُذْنِبٍ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ كُلِّ مُذْنِبٍ إِلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ وَاسْتِغْفَارَهُ عِنْدَهُ كَمَجِيءِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ لِيَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ.
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، وَالسِّيَاقُ مُحْكَمٌ مُتَّسِقٌ وَإِنْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا خَاصَّةً لِنُزُولِهَا، أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِرُبُوبِيَّتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute